17 ديسمبر، 2025
مقالات

المهندس صبري  الشرقاوي يكتب: آفة من آفات هذا الزمان.. إهدار الوقت في حكايات لا تُثمِن ولا تُغني من جوع

من أخطر ما ابتُلي به إنسان هذا العصر أن يُبدِّد أثمن ما يملك — وقته — في كلامٍ لا يعود عليه بنفع، ولا يُسهم في بناء نفسه أو إصلاح واقعه. فـ إهدار الوقت في حكايات لا تُثمِن ولا تُغني من جوع ليس مجرد تبادل قصص أو أحاديث عابرة، بل هو حالة إنسانية شائعة، ينشغل فيها المرء بكثرة الكلام وقلّة الفعل، فيضيع العمر دون ثمرة.

ومعنى هذه العبارة ببساطة: الانغماس في نقاشات وجدالات ووعود وأحاديث لا تحل مشكلة، ولا تحقق هدفًا، ولا تُضيف قيمة مادية أو معنوية. هي كل ما يستهلك الزمن دون عائد: جدل عقيم لا يغيّر واقعًا، ووعود تُقال ولا تُنفّذ، وكلام يسكّن الضمير لكنه لا يُطعم الجائع ولا يُداوي الجرح.

إنها صورة لعقلٍ يهرب من الفعل إلى الكلام، ومن العمل إلى التبرير، ومن المواجهة إلى التسويف. والوقت — وهو رأس مال الإنسان الحقيقي — إذا أُنفِق فيما لا ينفع، كانت الخسارة مضاعفة: ضياع الزمن وضياع الفرصة.

نرى ذلك واضحًا في أمثلة حياتية كثيرة؛ فشابٌّ يقضي ساعات طويلة يتابع أخبار النجاح ويتحدث عنها، لكنه لا يتعلّم مهارة ولا يخطو خطوة عملية. يعرف كل الحكايات، لكنه يجهل الطريق. ومجالس تمتلئ بالشكوى من الغلاء والفساد، دون أن يغيّر أحد سلوكه أو يتحمّل مسؤوليته؛ كلامٌ يدور في حلقة مفرغة. وشخص يبرّر فشله بسرد قصص عن الظروف والناس، فيرتاح بالكلام ويهرب من المواجهة. وموظف يتقن الحديث عن التخطيط والتطوير، بينما ملفاته فارغة وأعماله مؤجلة.

ولخطورة هذا السلوك، جاء توجيه القرآن الكريم صريحًا، فجعل الإعراض عن اللغو علامة من علامات الفلاح، قال تعالى:

﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾

فاللغو هو الكلام الذي لا فائدة فيه ولا ثمرة، والإعراض عنه ليس تركًا سلبيًا، بل وعيٌ بقيمة الوقت وحفظٌ للعمر.

كما شدّد القرآن على قبح انفصال القول عن العمل، واعتبره من أشدّ ما يُمقت عند الله، فقال عز وجل:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾

فالحكايات بلا التزام، والشعارات بلا صدق، ليست إلا ضربًا من الوهم.

بل إن أخطر الخسارة أن يظن الإنسان أن انشغاله وكلامه نافع، وهو في الحقيقة يدور في فراغ، كما قال تعالى:

﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ۝ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾

وجاء ميزان السنّة النبوية واضحًا وحاسمًا، فقال رسول الله ﷺ:

«من حسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه»

فكل ما لا ينفع دينك ولا دنياك، فتركه عبادة. وحذّر ﷺ من كثرة الكلام بلا حاجة، لما فيها من تضييع للوقت وتقسية للقلب، فقال:

«إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال».

وفي الحكم الصوفية إشارات عميقة إلى هذا المعنى، إذ يقولون: من أكثر الكلام قلّ الذوق، وما شغلك عن العمل بالله فهو حديث نفس لا نور فيه. فالحكايات علامة قلّة حضور، والوقت أمانة، ومن أضاعه في اللغو حُجب عن المعنى. وليس الجوع جوع البطن فقط، بل جوع الروح إلى الصدق.

ويُروى أن شيخًا قال لتلاميذه: يا ولدي، لا تُكثر من الحكايات، فإن الحكايات تُسلّي ولا تُربّي. الوقت رأس مال السالك، فإذا أنفقه في لغو الكلام افتقر قلبه وإن كثر حديثه. ليس كل ما يُقال يُنير، ولا كل ما يُحكى يُغني. اعمل بصمت، فإن الفعل الصادق دعاءٌ مستجاب.

وقال شيخ اخر: دع عنك كثرة القول، فإنها تُقسّي القلب. ما نفعك حديثٌ لا يُصلح سريرتك ولا يُقوّم عملك؟ العمر أنفاس، فإذا ذهبت في اللغو لم تعد. اشتغل بنفسك، فما نجا من نجا بكثرة الحكايات، ولكن نجا من صدق في خلوته، وقلّ كلامه، وكثر عمله. فإن وجدت في كلامك راحة، ولم تجد في فعلك مشقّة، فاتهم نفسك.

وهكذا، تبقى الحقيقة واضحة: الكلام الذي لا يقود إلى عمل صادق، لغوٌ مستتر، يسرق العمر بهدوء. والنجاة كل النجاة في وعي قيمة الوقت، والانتقال من الحكايات إلى الخطوات، ومن القول إلى الفعل.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *