8 أغسطس، 2025
أخبار مصر مقالات

أحمد سلام يكتب: «الموت من أجل الحقوق».. ذاكرة نانجينغ تصفع صمت العالم عن غزة

في الذكرى الثمانين لانتصارات الصين ، السينما الصينية تُوثّق مذبحة نانجينغ، والعالم يُشيح بوجهه عن مآسي غزة، وفي زمن تصرخ فيه المجازر من صمت التاريخ، وتئن الحكايات تحت ركام النسيان، تُعيد الصين توجيه البوصلة نحو واقع مؤلم وتاريخ محفور في ذاكرة أمتها، لتُطلق فيلمًا ضخمًا يحمل اسم “الموت من أجل الحقوق”، لتُعيد إحياء واحدة من أفظع المآسي الإنسانية في القرن العشرين: مذبحة نانجينغ، حين اجتاحت القوات اليابانية المدينة الصينية عام 1937، تاركة وراءها أنهارًا من الدماء وصرخات لم تُسمع، في وقت تتسابق فيه السينما العالمية على إنتاج أفلام الخيال العلمي والأبطال الخارقين.

ورغم مرور أكثر من ثمانية عقود على هذه الجريمة، فإن صداها لا يزال يتردد، وهذه المرة من خلال فيلم سينمائي حقق نحو 140 مليون دولار أمريكي في أول 8 أيام فقط ، متصدرًا شباك التذاكر الصيفي في الصين ، وبتقييم مرتفع بلغ 8.6 على منصة Douban، وحافظ الفيلم على صدارته لشباك التذاكر اليومي منذ بدء عرضه في 25 يوليو الماضي، وفقًا لبيانات منصّتي ‘ماويان’ و’بيكون’ المتخصصتين في تتبع إيرادات الأفلام.

حين تتحول السينما إلى شاهد تاريخي

يحكي الفيلم قصة مجموعة من المدنيين الصينيين الذين يختبئون من جحيم الاحتلال الياباني في أواخر عام 1937، داخل استوديو تصوير فوتوغرافي. هذا المكان، الذي بدا آمنًا، سرعان ما يتحول إلى مسرح لصراع إنساني وأخلاقي كبير، حين يُجبر اللاجئون على العمل مع جندي ياباني لتحميض فيلم تصوير عسكري، ليكتشفوا أن الصور تحتوي على أدلة دامغة توثق فظائع مذبحة نانجينغ: قتل جماعي، اغتصاب، تعذيب… لحظات موثقة لا تقبل التشكيك.

وفي مشهد درامي وإنساني مكثف، يقرر هؤلاء المدنيون الاحتفاظ بالشريط، والسعي جاهدين لإيصاله إلى العالم الخارجي، متحدّين الخوف، والتعذيب، والموت. إنها لحظة نادرة في السينما، حين يتجسد الضمير الإنساني في قرار، ويصبح الاحتفاظ بالحقيقة ومشاركتها عملًا بطوليًا.

السينما الصينية كقوة ناعمة في وجه النسيان

الفيلم ليس مجرد عمل سينمائي تاريخي، بل هو أداة من أدوات “القوة الناعمة” الصينية، التي تسعى من خلالها بكين لإعادة تقديم رواياتها للعالم، وترسيخ هويتها الثقافية والتاريخية كدولة ذات حضارة ممتدة. فبينما تُهيمن روايات غربية على الذاكرة السينمائية الجماعية للحرب العالمية الثانية، يأتي هذا الفيلم ليُذكّر بأن الصين لم تكن مجرد ضحية، بل طرفًا فاعلًا ونازفًا في الصراع، قدّم الملايين من أبنائه في مواجهة الغزو الياباني.

إن استدعاء أحداث نانجينغ ليس فقط لتحفيز المشاعر الوطنية، بل أيضًا لإثارة تساؤلات حول العدالة التاريخية، والذاكرة الجماعية، وحق الضحايا في التوثيق والاعتراف. وهذا ما يجعل “الموت من أجل الحقوق” فيلمًا يتجاوز حدود الشاشة، ليصبح بيانًا سياسيًا وأخلاقيًا وإنسانيًا في آنٍ واحد.

ما يميز هذا العمل أنه لا يكتفي باستعراض أهوال الحرب من منظور عسكري أو استراتيجي، بل يُعيد سرد القصة من قلب الناس، من أعين الضحايا والشهود العاديين. شخصيات بسيطة، لا تملك سلطة ولا سلاحًا، لكنها تملك شجاعة قول الحقيقة. وهنا تتجلّى قوة السينما؛ في قدرتها على تحويل لحظة إنسانية صغيرة إلى رمز خالد.

مثل هذه الأعمال تخلق حالة وجدانية فريدة، تُجبر المشاهد ليس فقط على التفاعل، بل على التفكير في ما هو الثمن الذي قد يدفعه الإنسان ليُخبر العالم بالحقيقة؟، وهل يكفي نقل الصور لتغيير المصير؟، إنها أسئلة تُطرح بلغة الفن، لا الشعارات.

وليس من قبيل المصادفة أن يتزامن عرض فيلم “الموت من أجل الحقوق” مع الذكرى الثمانين لانتصار الصين في حرب المقاومة ضد العدوان الياباني (1945-2025).

إنها لحظة رمزية بامتياز، تُعيد التأكيد على أن الذاكرة ليست ماضٍ فقط، بل جزء من الحاضر، وأداة فاعلة في معركة الوعي والكرامة الوطنية.

وفي هذه الذكرى، لا تكتفي الصين بالاحتفالات الرسمية، بل توظّف أدواتها الثقافية – وعلى رأسها السينما – لإيصال رسائلها إلى الداخل والخارج.

الفيلم لا يستحضر فقط مأساة نانجينغ، بل يُؤكد أن هذا الانتصار لم يكن مجرد انتصار عسكري، بل انتصار للعدالة، وكرامة الإنسان، وصوت الضحايا.

إن تزامن عرض الفيلم مع هذه الذكرى يحوّله إلى فعل مقاومة ثقافية، وبيان سياسي بلغة الفن، يعكس كيف تستطيع الأمم ذات الحضارات العميقة أن تجعل من ذاكرتها الحية سلاحًا للتأثير، وتثبيتًا لهويتها، وترسيخًا لقيمها عبر الأجيال.

حين تنتج الصين مثل هذا العمل، فإنها لا تُخاطب جمهورها المحلي فقط، بل تُرسل رسالة إلى الإنسانية كلها، مفادها إنها لديها روايتها الخاصة، وتجربتها الفريدة، وإن صوت الضحايا لا يموت، طالما هناك فن قادر على إحيائه. وهنا، تتجلّى قوة الصين الناعمة؛ حيث لا تكتفي بالصناعة والتكنولوجيا، بل تقتحم عالم الثقافة والدراما والتاريخ من أوسع أبوابه ومن خلال السينما ليكون جسراً بين الحضارات.

السينما العربية… وفلسطين الغائبة

في المقابل، وبينما نشاهد هذا النموذج الصيني المُلهم، لا يسعنا كعرب إلا أن نستعيد الذاكرة لمحاولات سينمائية ناجحة، رغم ما واجهته السينما من تحديات رقابية وإنتاجية – أن تُقاوم بالفن، وتُصرخ  بالعدسة، وهناك العديد من الأفلام كأمثلة على ذلك، ومنها “الناصر صلاح الدين”، الذي رفع راية الوحدة في وجه الغزو، إلى “أبناء الصمت”، و”الكرنك” اللذَين رصدا النضال في لحظات الانكسار، وصولًا إلى أفلام فلسطينية توثيقية مثل “جنين.. جنين”، حيث حمل المخرجون الفلسطينيون الكاميرا بدل البندقية، وأرسلوا للعالم صورهم من قلب المجزرة.

لكن، رغم هذه المحاولات المهمة، يبقى السؤال المؤلم: أين هو الفيلم العربي الكبير الذي يُعادل “الموت من أجل الحقوق”؟، ومتى سنشاهد عملاً سينمائيًا ضخمًا يُجسد مذبحة غزة، لا بوصفها أزمة إنسانية فقط، بل كقضية وجود وكرامة وعدالة، تُكتب بالدم وتحيا في الذاكرة؟.

والسؤال الملح في زماننا هو أين السينما العربية من مآسيها الكبرى؟، أين هي من نكبة فلسطين، مجازر دير ياسين، صبرا وشاتيلا، واغتيال الطفولة في غزة؟

نتمنى أن نشاهد يومًا فيلمًا عربيًا ضخمًا، يُنتج بإرادة حقيقية وتمويل جاد، يحكي مذبحة فلسطين بكل وجعها وكرامتها. فيلم لا يُهادن، ولا يُزيف، ولا يكتفي بالرمزيات، فيلم يُعيد للسينما المصرية والعربية دورها الريادي كحاملة للرسالة، ومعبّرة عن الضمير الجمعي للأمة.

وكما فعلت الصين في “الموت من أجل الحقوق”، يُمكن للسينما المصرية أن تُنتج عملًا خالدًا عن فلسطين.. فهي قصة لا تزال تُكتب بالدم، وتنتظر من يسردها بالصوت والصورة والروح.

خلاصة القول، إن هذا الفيلم ليس مجرد فيلم صيني ناجح، بل نموذج يُحتذى به. إنه دعوة لاستعادة ثقتنا بقدرة الفن على التغيير، وبأن السينما ليست ترفيهًا فقط، بل مرآة للذاكرة، وسلاح للعدالة، وجسر بين الماضي والمستقبل. فهل سنرى قريبًا فيلما عربيًا يُعيد لفلسطين حقها في الذاكرة… كما أعادت الصين لضحايا نانجينغ حقهم في الظهور والنطق باسم الحقيقة؟!!.

……

 أحمد سلام.. المستشار الإعلامي المصري السابق ببكين

الخبير بالشأن الصيني

Sallamahmed2@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *