نحن الآن في عصرٍ يُسمونه عصر العَوْلَمة تارةً، وعصر ثورة الاتصالات تارةً أخرى، ومن بعد قالوا عصر ثورة ٍالمعلومات، أو العصر الرَّقمي أو التِّقَني، أو الإلكتروني.
ولكن هذا الذي كان اسمه الرِّيف، ليس هو الرِّيف الذي رأيتُه في طفولتي، وتَربيتُ وعِشتُ فيه ردَحًا من الزمن في صِباي، وأدْركْتُه على سيرته الأولى من البَساطة والبَداءة والفطرة، وعمِلتُ فيه وكيلا للنائب العام منذ ما يَربُو على خمسة وثلاثين عامًا مضَتْ. بل هو التطور المُذهل الذي ضرَبهٌ في كلِّ مَناحي الحياة، قبل أن يَهجُرَ أهله كل ما كان جميلاً من قِيَم وأخلاق وتواد وتراحم. وتناسيهم أو نسيانهم معنى ذلك المُفرد، الذي تُكتب فيه الكتابات “عيب”. كان هناك قاعدة أخلاقية تحكم التصرفات اسمها ”العيب”؛ أي لا تأتي من الصغائر ما يجعلك تسمع أن ما جئتَ به ”عيب”. أي “عيبٌ” عليك أن تأتيه.
تبدل الريف السابق “ريفٌ” جديدٌ؛ ريفٌ حلَّ فيه الأسْفلتْ محل المَدقَّات والطرُق الُّترابيَّة، وماكينات الصَّرف الصِّحي تهدر بدلاً من سيارات “كَسْح” الآبار البدائية. ووصَلات المياه النظيفة، ودورات المياه التي يكسوها السيراميك والبورسلين، لتَطرُد “الطِّشت” و”الأبريق” من المشهد.
حتى منظومة عمل الفلاح قد تغيَّرتْ، صار يجذب حَبل ماكينة الرَّي ليُديرها بدلا من “الطنبور” أو “الشادوف” أو “الساقية” وصار غيرها يُدارُ بمفتاح عَبْر “كونتاكْتْ” مثل السيارة. وولَّى زمن الحَصاد اليدوي، لتقوم الميكنة بهذا الدور كله، تحصُد المحاصيل، وتفْصِلها عن سيقانها، أو تَقْلَع الدَّرنات من الأرض بدلا من “النُورَج و “الفأس و ”المِدراة”. ولم يَعد يعمل من الثامنة صباحًا حتى الغروب، وإنما عدة ساعات تُعد على أصابع اليد الواحدة قبل الشروق، على طريقة “سَلق البيض”.
وتحوَّلت بُيوت الطُّوب اللَّبِنْ إلى عماراتٍ عملاقة تخترق جدرانها أجهزة التكييف، وتتخلَّلُها المصاعد الكهربائية بدلاً من السَّلالم الخشبية أو الطينية.
وذهَبَ أدْراجَ الرياح الفُرْن البلدي، ليأخذَ مكانه الفُرن الحكومي الآلي، أو نصف لآلي، أو الفرن المنزلي بالغاز. وحَلَّتْ أطباق التقاط الأقمار الاصطناعية محل حطَبْ القطن والذُرة فوق السطوح. وشبكات ”الواي فاي” وشبكات الإنترنت، محَل “سيمافور” وسلك تليفون دَوَّار العُمدة.
وصار “الميكروويف” بديلاً “للكانون”. ناهِيكَ عن الغسَّالات الأوتوماتيكية، والثلاجات، و”الكِتْشِن ماشين” وماكينات الطَّحين الحديثة التي تجعل الدقيق من ثلاث درجات، بعد أن ولَّت أيام ”الرَّحَى” والقادوس القديم وحَجَر الطحين.
ذهبَ السُّوق إلى غير رَجعة، بعد أن أنهَى حياته “السوبر ماركت” وخدمة التوصيل للمنازل من خلال “التُّوك تُوك” وانتشرَت مَغاسِل ”الدِّرايْ كلين” للسِّجاد وللملابس، بدلاً من “الطِّشت” أو الحجر على شاطئ التِّرعة.
وانتشرَتْ صناعة المخبُوزات والحلوَى، و”البيتزا” والمشويات، والأسماك الجاهزة، والكافيهات، وصالات الأفراح؛ بعد أن كانت الاحتفالات تجري في “جُرْن” القرية أو الدَّوار.
ولم يسْلَمْ التعليم في الرِّيف من هذه الحَداثة، فالحضَانات العربي واللغات بدلاً من الكُتَّاب والمدارس الحكومية، وسيارات التوصيل للمدارس بدلاً من الحمير، والسَّيْر مَشْيًا على الأقدَام. ويُقال “كي جي” بدل سنة كذا أو حضانة.
وفروع البنوك و”الفيزا كارت” لقَبْض المُرتَّبات والمعاشات ورحِم الله كاتب الماهيات، ودفتر التوفير، والبوستة، ناهيكَ عن المحمول و”التابلت” اللذين لا يفارقان الفلاحين وهُم رُكوبٌ فوق الدَّواب، يناجون أبناءهم في النمسا واليونان وأمريكا وفرنسا لإرسال اليورو والدولارات، لشراء مزيد من الأرض من عِلية القوم التي كانوا يعملون فيها أُجَراء، فصارت الأحقاد والأمراض النفسية تحكم المعاملات لدى البعض. إلخ.
حتى حُرمة المآتم لم تسْلَم من تلك الحداثة المجنونة، دخَلتْ عليها بدعة تصويرها بالفيديو. لماذا؟ لستُ أدري! هل الذكرى جميلة إلى هذا الحد؟! أم لمُقاطعة مَن لم يحضر العزاء!
تغيَّر كل شيء – بحق – تغيرًا جِذريًا، في الأدوات، ونَمَط الحياة، وأساليب المعيشة، ولم يتغيَّر الإنسان إلى الأفضل.