20 يناير، 2025
البترول مقالات

المستشار بهاء المري يكتب: هذا الذي كان اسمه «ريف»

نحن الآن في عصرٍ يُسمونه عصر العَوْلَمة تارةً، ‏وعصر ثورة الاتصالات تارةً أخرى، ومن بعد قالوا عصر ‏ثورة ٍالمعلومات، أو العصر الرَّقمي أو التِّقَني، أو الإلكتروني.

ولكن هذا الذي كان اسمه الرِّيف، ليس هو الرِّيف الذي رأيتُه في طفولتي، وتَربيتُ وعِشتُ فيه ‏ردَحًا من الزمن في صِباي، وأدْركْتُه على سيرته الأولى من البَساطة ‏والبَداءة والفطرة، وعمِلتُ فيه وكيلا للنائب العام منذ ما يَربُو على خمسة ‏وثلاثين عامًا مضَتْ. بل هو التطور المُذهل الذي ضرَبهٌ في كلِّ مَناحي ‏الحياة، قبل أن يَهجُرَ أهله كل ما كان جميلاً من قِيَم وأخلاق وتواد ‏وتراحم. وتناسيهم أو نسيانهم معنى ذلك المُفرد، الذي تُكتب فيه ‏الكتابات “عيب”. كان هناك قاعدة أخلاقية تحكم التصرفات اسمها ‏‏”العيب”؛ أي لا تأتي من الصغائر ما يجعلك تسمع أن ما جئتَ به ‏‏”عيب”. أي “عيبٌ” عليك أن تأتيه. ‏

تبدل الريف السابق “ريفٌ” جديدٌ؛ ريفٌ حلَّ فيه الأسْفلتْ محل ‏المَدقَّات والطرُق الُّترابيَّة، وماكينات الصَّرف الصِّحي تهدر بدلاً من ‏سيارات “كَسْح” الآبار البدائية. ووصَلات المياه النظيفة، ودورات ‏المياه التي يكسوها السيراميك والبورسلين، لتَطرُد “الطِّشت” ‏و”الأبريق” من المشهد. ‏

حتى منظومة عمل الفلاح قد تغيَّرتْ، صار يجذب حَبل ماكينة ‏الرَّي ليُديرها بدلا من “الطنبور” أو “الشادوف” أو “الساقية” وصار ‏غيرها يُدارُ بمفتاح عَبْر “كونتاكْتْ” مثل السيارة. وولَّى زمن الحَصاد ‏اليدوي، لتقوم الميكنة بهذا الدور كله، تحصُد المحاصيل، وتفْصِلها عن ‏سيقانها، أو تَقْلَع الدَّرنات من الأرض بدلا من “النُورَج و “الفأس و ‏‏”المِدراة”. ولم يَعد يعمل من الثامنة صباحًا حتى الغروب، وإنما عدة ‏ساعات تُعد على أصابع اليد الواحدة قبل الشروق، على طريقة “سَلق ‏البيض”. ‏

وتحوَّلت بُيوت الطُّوب اللَّبِنْ إلى عماراتٍ عملاقة تخترق جدرانها ‏أجهزة التكييف، وتتخلَّلُها المصاعد الكهربائية بدلاً من السَّلالم الخشبية ‏أو الطينية‎.‎

وذهَبَ أدْراجَ الرياح الفُرْن البلدي، ليأخذَ مكانه الفُرن الحكومي ‏الآلي، أو نصف لآلي، أو الفرن المنزلي بالغاز. وحَلَّتْ أطباق التقاط ‏الأقمار الاصطناعية محل حطَبْ القطن والذُرة فوق السطوح. وشبكات ‏‏”الواي فاي” وشبكات الإنترنت، محَل “سيمافور” وسلك تليفون دَوَّار ‏العُمدة‎.‎

وصار “الميكروويف” بديلاً “للكانون”. ناهِيكَ عن الغسَّالات ‏الأوتوماتيكية، والثلاجات، و”الكِتْشِن ماشين” وماكينات الطَّحين ‏الحديثة التي تجعل الدقيق من ثلاث درجات، بعد أن ولَّت أيام ‏‏”الرَّحَى” والقادوس القديم وحَجَر الطحين. ‏

ذهبَ السُّوق إلى غير رَجعة، بعد أن أنهَى حياته “السوبر ماركت” ‏وخدمة التوصيل للمنازل من خلال “التُّوك تُوك” وانتشرَت مَغاسِل ‏‏”الدِّرايْ كلين” للسِّجاد وللملابس، بدلاً من “الطِّشت” أو الحجر على ‏شاطئ التِّرعة. ‏
وانتشرَتْ صناعة المخبُوزات والحلوَى، و”البيتزا” والمشويات، ‏والأسماك الجاهزة، والكافيهات، وصالات الأفراح؛ بعد أن كانت ‏الاحتفالات تجري في “جُرْن” القرية أو الدَّوار. ‏

ولم يسْلَمْ التعليم في الرِّيف من هذه الحَداثة، فالحضَانات العربي ‏واللغات بدلاً من الكُتَّاب والمدارس الحكومية، وسيارات التوصيل ‏للمدارس بدلاً من الحمير، والسَّيْر مَشْيًا على الأقدَام. ويُقال “كي جي” ‏بدل سنة كذا أو حضانة. ‏

وفروع البنوك و”الفيزا كارت” لقَبْض المُرتَّبات والمعاشات ورحِم ‏الله كاتب الماهيات، ودفتر التوفير، والبوستة، ناهيكَ عن المحمول ‏و”التابلت” اللذين لا يفارقان الفلاحين وهُم رُكوبٌ فوق الدَّواب، ‏يناجون أبناءهم في النمسا واليونان وأمريكا وفرنسا لإرسال اليورو ‏والدولارات، لشراء مزيد من الأرض من عِلية القوم التي كانوا ‏يعملون فيها أُجَراء، فصارت الأحقاد والأمراض النفسية تحكم ‏المعاملات لدى البعض. إلخ‎.‎

حتى حُرمة المآتم لم تسْلَم من تلك الحداثة المجنونة، دخَلتْ عليها ‏بدعة تصويرها بالفيديو. لماذا؟ لستُ أدري! هل الذكرى جميلة إلى هذا ‏الحد؟‎!‎‏ أم لمُقاطعة مَن لم يحضر العزاء! ‏

تغيَّر كل شيء – بحق – تغيرًا جِذريًا، في الأدوات، ونَمَط الحياة، ‏وأساليب المعيشة، ولم يتغيَّر الإنسان إلى الأفضل. ‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *