30 يوليو، 2025
البترول مقالات

المستشار بهاء المري يكتب: وجوه صغيرة… تَـهُم كبيرة

صاح الحاجب بصوته الجَهوري: “محكمة”! هبّ الحاضرون ‏واقفين، وعمَّ السكون أرجاء القاعة. كأن الصمت ارتدى وقاره، وجلس ‏يراقب.‏
مدّ القاضي كفّيه في الهواء، فجلس الجميع في خشوعٍ متوتر. جلس ‏هو الآخر، وجال ببصره بين المقاعد حتى استقرّ على القفص الحديدي ‏الممتلئ بالأجساد الصغيرة.‏

أشار إلى الحُرّاس: “أخرجوا الأطفال”. تحرك أربعة عشر طفلًا ‏نحو مؤخرة القاعة. تراوحت أعمارهم بين الثالثة عشرة والثامنة عشرة، ‏كأنّهم ظلّ واحد ممتد، يتمايل على عتبة الخوف. جلسوا متلاصقين، ‏وجوههم مرسومة بريشة الذعر، وعيونهم تتقافز بين الأرض والجدران، ‏كمن يبحث عن رحِمٍ بديل. غُرباء عن هذا المشهد، وعن هذه القاعة التي ‏تزدحم بأكثر من القوانين.‏

فتح القاضي الجلسة. فض الأحراز. عُرضت على الشاشة الكبيرة ‏مقاطع مصورة: تظاهرة صاخبة، هتافات ضد الدولة، لافتات وشتائم تُلقى ‏على الجيش والشرطة والقضاء. تتابعت اللقطات: شماريخ مشتعلة، محلات ‏تُحرق، سيارات تُحطّم، وطرق تُغلق بإطاراتٍ سوداء.‏

ثم ظهرت وجوه الأطفال… يركضون، يهتفون، يلوحون ‏بالشعارات، تحرّكهم نشوة اللحظة، وتشُدّهم خيوط لا يعرفون لونها. ‏يُقلّدون الكبار بحماسةٍ عبثية.‏

أشار القاضي للفني فأوقف العرض. أدار رأسه نحو المؤخرة: ‏‏”تقدّموا”. وقفوا. وتقدّموا. تسحبهم رهبة اللحظة كما تسحب الموجة ‏أصدافها. تسبقهم نظرات الارتباك، تتبعهم أنفاس الخوف.‏

عاد العرض، هذه المرة بالحركة البطيئة. عين القاضي تتنقّل بين ‏الشاشة ووجوههم. كأنّه يفتّش عن نية خفيّة، أو نضجٍ يبرر الحكم. يبحث ‏عن شيء لا يدريه. “أأنتم مَن في المقطع”؟هزّوا رؤوسهم صامتين بما يعني نعم… لم يُنكر أحد.‏

ساد صمتٌ ثقيل. الأعين شاخصة نحو القاضي، والأعناق ‏مشدودة إلى قراره. أطرق برأسه، واستغرق في شروده. توالت الوجوه في ‏ذاكرته: صغيرة خلف قضبانٍ كبيرة، أعمار تُطوى، وملفات تُغلق على براءةٍ لم ‏تنضج.‏

تساءل في داخله: هل يدرون ما فعلوه؟ هل يؤمنون بما هتفوا به؟ ‏هل يفهمون لماذا كانوا هناك؟ أم أنهم فقط… لعبوا لعبة الكبار؟
تسلّل صوت داخلي، ببرودٍ قانوني: “مهما كانت نواياهم… فقد ‏صاروا مجرمين.” لكنه شعر بشيء يخنقه. ليس القانون، بل الضمير.‏

استفاق. سحب نفسًا عميقًا، وزفرة ببطء. نطق أخيرًا، بصوت ‏خافت، كأنّه يُخاطب أبناءه: “لماذا فعلتم هذا”؟

ارتد السؤال في القاعة كصفعة. ثم أجاب صبيٌّ نحيل، لم يبلغ ‏الخامسة عشرة، بصوتٍ متهدج: “قالوا لنا… كل واحد سيحصل على ‏‏”تيشيرت؟ ومائة جنيه بعد المظاهرة…‏

رمقهم القاضي طويلًا، كأنّه يبحث في أعينهم عن ذنبٍ واضح… ‏أو وعيٍ بما اقترفوه. فلم يجد إلا الخوف، والطفولة، والحيرة. سكت… رفع ‏الجلسة للمداولة.‏

في المداولة كان المشهد وحده، بوجوههم، وبما لم يقولوه، كان كافيًا ‏لإدانة زمنٍ بأكمله. رفع بصره نحو ثم أغلق الملف أمامه، وهمس في داخله: ‏‏”الملف أُغلق، لكن السؤال بقي هناك… يُلطّخ ضميرًا لن يجف، لأن الحكم ‏لم يُكتب بالحبر… بل بالدمع.‏

انتهت المداولة. عاد القضاة إلى المنصة. نظر رئيس الجلسة إلى شعار ‏القاعة: “العدل أساس الملك.”. نطق قائلا: “براءة”. ‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *