مع التوسع الضخم على مرحلتين الجاري تنفيذه حالياً، واقتراب البدء بمشروع كبير جديد، تستعد قطر للسيطرة على ربع إنتاج الغاز الطبيعي المسال بحلول نهاية العقد، بالإضافة إلى حصة متزايدة من التأثير في العالم وثرواته.
كشف وزير الطاقة القطري سعد الكعبي أمس الأحد، عن خطط لزيادة القدرة الإنتاجية بنسبة 13% أخرى، تضاف إلى المشاريع المعلنة سابقاً، مما يزيد إنتاج البلاد من الغاز الطبيعي المسال من 77 مليون طن متري سنوياً اليوم إلى 142 مليون طن بحلول عام 2030.
هذا يضع الدولة التي يقل عدد سكانها عن ولاية ميسيسيبي، على طريق إنتاج غاز طبيعي يكافئ 7.25 مليون برميل من النفط يومياً، وهو ما سيتم تصدير معظمه. ويقارب ذلك شحنات النفط من السعودية حاملة لقب عملاق الطاقة في المنطقة.
وكشف الكعبي عن ذلك خلال مؤتمر صحفي قال فيه أيضاً: “سنواصل تقييماتنا. إذا كانت هناك كميات إضافية متاحة للإنتاج، فسوف ننتج المزيد”. ورأى أن الشيء الوحيد الذي قد يمنع قطر من التوسع بشكل أكبر في الإنتاج هو عدم وجود طلب على هذا التوسع. أضاف: “نعتقد أن هناك سوقاً ضخمة متاحة”.
بينما تعمل قطر على تنمية صادراتها من الغاز الطبيعي المسال، فإن الدولة التي تعدّ حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي فيها من الأعلى عالمياً، ستحصل على المزيد من الأموال. وشكلت المواد الهيدروكربونية، بما في ذلك الغاز الطبيعي المسال، حوالي 44% من الناتج المحلي الإجمالي لقطر في عام 2022، وفقاً لتقديرات وكالة “موديز”. وبمجرد أن تصبح التوسعات متاحة، فإن الشحنات الإضافية ستزيد الإيرادات السنوية بنحو 31 مليار دولار، وفقاً لحسابات “بلومبرغ” بناءً على أسعار العقود طويلة الأجل الأخيرة التي تفترض أن سعر النفط يبلغ حوالي 80 دولاراً للبرميل.
أكد الكعبي، في مقابلة مع “بلومبرغ”، أن الإيرادات الجديدة ستكون في حدود عشرات المليارات من الدولارات، دون أن يذكر مبلغاً محدداً.
باختصار، ستساعد التوسعات الجديدة في جعل قطر واحدة من أكثر الدول ثراءً في العالم.
تابع الكعبي: “نحن دولة مصدرة للغاز. ليس لدينا أي إيرادات أخرى مماثلة. علينا التأكد من أن أولادنا وأحفادنا وحتى الأجيال الحالية ستكون في حالة أفضل”.
قبل 50 عاماً، كان يُنظر إلى قطر إلى حد كبير على أنها منطقة راكدة في الوقود الأحفوري مقارنة بجيرانها في الخليج العربي، الكويت والسعودية والإمارات. ولكن تم اكتشاف حقل الشمال القطري، وهو جزء من أكبر خزان للغاز في العالم، في 1971، إلا أن المنتجين كانوا أكثر اهتماماً بالعثور على النفط في ذلك الوقت. لم يتم بذل الكثير لتطوير حقل الغاز حتى أكملت البلاد أول منشأة لتصدير الغاز الطبيعي المسال في عام 1996.
الآن، ستعمل خطط قطر التي فاقت التوقعات في مجال الغاز الطبيعي المسال، على تعزيز مكانتها لعقود قادمة في أسرع أسواق الوقود الأحفوري نمواً.
تبحث البلدان التي تبتعد عن النفط أو الفحم ولكنها تكافح من أجل الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة عن بدائل، وستؤدي العقود طويلة الأجل التي أبرمتها قطر إلى تأمين إمدادات الغاز الطبيعي المسال بعد عام 2050.
وقد وقعت نحو 20 دولة، من الهند إلى إيطاليا، بالفعل على صفقات طويلة الأجل لشراء الغاز المنقول بحراً من شركة قطر للطاقة المملوكة للدولة، مع احتمال ظهور المزيد من المشترين.
قال ستيفن رايت، الأستاذ المشارك في “جامعة حمد بن خليفة” إن قطر “تتطلع بشكل استراتيجي على المدى الطويل إلى تنمية حصتها السوقية وتشجيع نمو الطلب العالمي على الغاز. وباعتبار أنها تمتلك شركة طاقة تعد أكبر لاعب عالمي في مجال الغاز الطبيعي المسال، فإن حساباتها يمكن أن تكون أطول أجلاً”.
رغم أن قطر تراهن بعشرات المليارات من الدولارات على أن الغاز الطبيعي سيكون سوق الوقود الرئيسي الأكثر استمراراً وسط التحول الطاقي، إلا أن آخرين يقولون إن التوقعات ليست وردية للغاية.
تتوقع وكالة الطاقة الدولية أن يصل الطلب على الغاز إلى ذروته في جميع السيناريوهات المتوقعة بحلول عام 2030؛ حتى شركة الطاقة العالمية العملاقة “شل” قالت إن استهلاك الغاز قد تجاوز بالفعل أعلى مستوياته في بعض الأسواق بما في ذلك أوروبا واليابان، بناءً على تفسيرها لبيانات “وود ماكنزي”. كما أن الهجمات المستمرة التي تشنها جماعة الحوثي على السفن التي تعبر البحر الأحمر رداً على الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة تهدد أيضاً بتعريض صادرات المنطقة للخطر.
وعلى نحو مماثل، لن تجني قطر تلك المكاسب غير المتوقعة إلا إذا تمكنت من بيع إنتاجها الإضافي بنجاح. وعلى عكس مشاريع الغاز الطبيعي المسال الأميركية، التي لا يتم البدء فيها إلا بعد أن تلبي احتياجات العملاء لمدة 10 سنوات أو أكثر، كانت قطر تمول عمليات البناء من دون ضمانات كاملة بأن الطلب سوف يتحقق.
خلال معظم عام 2023، تخلفت عقود قطر الجديدة عن المبيعات خارج الولايات المتحدة، وهو اتجاه عزاه البعض إلى شروط العقود غير المرنة، بما في ذلك الكميات الكبيرة والأطر الزمنية الطويلة وقواعد التسليم الصارمة. ومع ذلك، بحلول نهاية عام 2023، عاد العملاء إلى الظهور مرة أخرى. وأظهرت بيانات “بلومبرغ إن إي إف” أن قطر وقعت أكبر عدد من الصفقات بين الموردين في الربع الرابع، متفوقة على الولايات المتحدة لأول مرة منذ أوائل عام 2021.
اعتبر ميغ أونيل، الرئيس التنفيذي لشركة “وودسايد إينرجي”، أكبر مصدر أسترالي للغاز الطبيعي المسال أن “العملاء يريدون شيئاً معيناً من قطر، وهو حجم الإنتاج الضخم الذي عادة ما يمكن التنبؤ به إلى حد كبير”.
كما أن القرار الأميركي الأخير بإيقاف الموافقة على تصاريح التصدير الجديدة لمنشآت الغاز الطبيعي المسال وسط رد فعل عنيف من الناخبين المهتمين بالمناخ، جعل قطر تبدو جذابة بشكل متزايد من منظور استقرار العرض.
ولن يؤثر هذا التوقف، الذي يعتمد على نتيجة الانتخابات الأميركية المقبلة، على أي مصانع قيد الإنشاء بالفعل أو قيد التشغيل، ولكنه يهدد بتأخير بعض المشاريع الأميركية الكبرى المتوقع أن تصل إلى السوق في نهاية العقد وما بعده.
قال بوب ماكنالي، رئيس شركة “رابيدان إينرجي غروب” (Rapidan Energy Group) والمسؤول السابق في البيت الأبيض، عن هذه الخطوة السياسية الأميركية: “هذا يعد بمثابة فرصة جيدة لمنتج كبير للغاز مثل قطر”.
من المتوقع أن يكون التوسع في الغاز الطبيعي المسال معزولاً بشكل جيد عن صدمات أسعار الطاقة في المستقبل. وقالت شركة “فيتش” للتصنيف الائتماني العام الماضي، إن سعر التعادل للنفط في الاقتصاد القطري هو بالفعل الأدنى في الشرق الأوسط، ويمكن أن يصل إلى 40 دولاراً للبرميل بحلول عام 2026. وأي توسع إضافي في الصادرات يمكن أن يؤدي إلى انخفاض ذلك الرقم بشكل أكبر. وهذا بعيد عن السعر المطلوب في السعودية والذي يبلغ 80 دولاراً أو أكثر.
وكلما زادت القدرة الإنتاجية التي توفرها قطر، كلما زادت قدرتها على الحد من النمو المستقبلي من المنتجين الآخرين. وحتى لو غمرت قطر السوق وانخفضت أسعار الغاز الطبيعي المسال بشكل حاد، فإن الشركة القطرية ذات التمويل الجيد يمكنها أن تتحمل التبعات لفترة أطول من العديد من منافسيها.
الدور الموسع لقطر في تجارة الطاقة العالمية سيسمح لها بممارسة قوة جيوسياسية أكبر من بكين إلى نيودلهي، بالإضافة إلى الشرق الأوسط. وتصر قطر، التي استضافت بطولة كأس العالم لكرة القدم عام 2022 والمفاوض العالمي، على أنها لا تستخدم مواردها من الغاز لدفع أجندة سياسية. وقال بين كاهيل، زميل بارز في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، إن “المزيد من عائدات النفط والغاز يعني المزيد من النفوذ لقطر كلاعب دبلوماسي وكمستثمر خارجي”.
دفعت الحرب في غزة قطر إلى واجهة الجغرافيا السياسية الإقليمية لأنها تستضيف العديد من القادة السياسيين لحركة حماس، التي تصنفها الولايات المتحدة كـ”منظمة إرهابية”. ومع ذلك، أشادت واشنطن بقطر لكونها وسيطاً رئيسياً بين إسرائيل وحماس، ولمساعدتها في إطلاق سراح بعض المحتجزين في غزة.
سيتم تحويل أرباح الغاز الطبيعي المسال الجديدة في المقام الأول إلى هيئة الاستثمار القطرية، أو “كيو آي إيه” (QIA)، صندوق الثروة السيادية في البلاد. تعتبر هذه ممارسة مشتركة لدول الخليج الغنية بالنفط، بما في ذلك السعودية والإمارات، إذ تستثمر هذه الدول بكثافة في الوقود الأحفوري ثم تستخدم الإيرادات لتمويل مشاريع أخرى. بعبارة أخرى، تقوم البلدان ببناء الاستثمارات التي ستحتاجها لحماية نفسها من عالم يتجه نحو مستقبلٍ لا يحتاج فيه إلى النفط بالقدر نفسه – أو لا يحتاجه على الإطلاق.
في السنوات القليلة الماضية، ركزت قطر العديد من استثماراتها على التكنولوجيا وفرص الرعاية الصحية في الخارج. فنحو أربعة من أصل خمسة من استثمارات قطر في العام الماضي كانت في الولايات المتحدة أو الهند، وهما حليفتان رئيسيتان في مجالي الطاقة والسياسية. لفت الكعبي إلى أن الصندوق سيركز على امتلاك محفظة متنوعة لتحقيق نمو مطرد على المدى الطويل، من دون الكشف عن تفاصيل.
أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، “يريد دائماً التأكد من حصول الشعب القطري على رعاية جيدة، ولكنه أيضاً يفكر في الجيل القادم، والتأكد من أننا من خلال جهاز قطر للاستثمار نضع استثمارات كافية للأجيال القادمة، ونبني ثرواتٍ لهم”، بحسب الكعبي، وهو عضو أيضاً في مجلس إدارة الصندوق. أضاف: “سيكون هناك الكثير من الأشياء المثيرة خارج البلاد”.
نظراً لأن الاقتصاد القطري يعتمد كثيراً على بيع الغاز الطبيعي المسال، فإن الكعبي غالباً ما يتخذ نهجاً شخصياً في مفاوضات العقود. ومن المعروف أنه يسافر إلى الهند لتسوية تفاصيل العقد في اللحظة الأخيرة، أو لعقد اجتماعات فردية مع شركات الطاقة الأوروبية الكبرى.
وعندما أجبرت كارثة فوكوشيما النووية عام 2011 اليابان على إغلاق مفاعلاتها، سارعت قطر إلى الإنقاذ من خلال شحنات إضافية من الغاز. كذلك، عندما أدت جائحة كوفيد إلى انخفاض الطلب الهندي على الغاز الطبيعي المسال في عام 2020، سمحت قطر للدولة بإعادة جدولة الشحنات، من دون طرح أي أسئلة.
مقارنةً بما كانت عليه عندما بدأت بتصدير الغاز الطبيعي المسال لأول مرة في التسعينيات، تواجه قطر الآن منافسة أكبر بكثير على الوقود فائق التبريد، خاصة من أمثال الموردين الأميركيين والأستراليين، فضلاً عن الوافدين الجدد في أفريقيا. ورغم أن شركة قطر للطاقة هي أكبر شركة منفردة تصدر الغاز الطبيعي المسال، إلا أن الولايات المتحدة ككل لا تزال لاعباً أكبر في هذه الصناعة، نظراً للعديد من مشغلي الغاز الطبيعي المسال الذين يحصلون على الغاز من أحواض الصخر الزيتي في الولايات المتحدة، بما في ذلك من حوض بيرميان غزير الإنتاج.
وقطر للطاقة نفسها هي المالك الأكبر لمحطة “غولدن باس” (Golden Pass) الأميركية، والتي تم بناؤها في الأصل لاستيراد الغاز الطبيعي المسال، وتخضع الآن للتوسع لتصديره بدلاً من ذلك.
في خضم المنافسة المتزايدة، تميل قطر إلى سمعتها كمورد موثوق به – وإن كانت أكثر تشدداً في شروطها – على أمل أن يفوز نموذجها الفريد بالعملاء على المدى الطويل.
من جهته، قال أكشاي كومار سينغ، رئيس شركة “بترونت إل إن جي” (Petronet LNG)، أكبر مشتر للغاز الطبيعي المسال في الهند، إنه على مدى السنوات العشرين الماضية من الاستيراد من قطر، “لم تتخلف البلاد عن تسليم شحنة واحدة على الرغم من الكثير من التقلبات. ولا حتى شحنة واحدة”. جددت “بترونت” عقدها مع قطر في فبراير الماضي بأسعار أفضل.
قال الكعبي: “أنت تبني سمعتك على مدى عقود، ويمكن أن تخسرها بسبب شحنة ما. المصداقية تستمر وقتاً طويلاً”.