مصر الحصن الأخير، وبركان الأمة الذي لا يخمد، وسيف العروبة المصلت حتى تنجلي ظلمات القدس..
رأيتُ صورةً لأول دفعةٍ من الجنود الإنجليز تعبر بوابة القدس سنة 1917، فلم يستوقفني وقعُ أقدام الغزاة، بل شدّني النقش الحجري على البوابة:
“أمر بإنشاء هذا السور المبارك السلطان الملك الأعظم والخاقان الأكرم سلطان الروم والعرب والعجم، السلطان سليمان بن سليم خان، خلد الله ملكه وسلطانه.”
كان الحجر يتكلم، يذكّر المارّين أن لهذه المدينة رباطًا طويلًا مع الخلافة، وأنها لم تُشيَّد على فراغ. ولكن حين زحفت الجيوش الإنجليزية، كان الجيش العثماني قد تهاوى، أنهكته الهزائم والجوع، فلم يبقَ في يديه إلا الانسحاب، وانسحب. فسقطت القدس بعد أربعة قرونٍ كاملة، ودخل اللنبي المدينة ماشيًا وقال قولته الوقحة: “الآن انتهت الحروب الصليبية.”
لم يكن ذلك سقوط مدينة وحسب، بل سقوط أمةٍ تفرقت، وخيانة تحالفت مع الغزاة ضد دمها وعرضها، ووعد بلفور الذي باع فلسطين على موائد الغرب. ومنذ ذلك الحين، ما زال بعض العرب يستجدون العدو، كأنما الذئب يُسأل عن أمان القطيع، أو كأنّ الغراب يُستفتى في لون الربيع!
لكن مصر كانت الاستثناء، مصر لم تُسقط رايتها، ولم ترفع يدها عن القدس. صحيح أن جراحها نزفت، وأن القيود كبّلتها حينًا، لكنها — حين يجيء أوانها — تثور كبركان من تحت الرماد، وتثبت أنّها السور الأخير الذي لا يُهدَم، والدرع الذي لا يُثلم، والصوت الذي لا ينكسر.
وفي السادس من أكتوبر 1973، دوّى الردُّ الذي انتظرته الأمة نصف قرن. كتبت مصر بدماء أبنائها ملحمة العبور، حطّمت خط بارليف، واقتحمت المستحيل، وردّت على كلمات اللنبي قائلة:
“لم تنتهِ الحروب الصليبية، بل ها نحن أبناء العروبة والإسلام نكتب فصلها الجديد: نصرًا بعد انكسار، وكرامة بعد مهانة.”
لم يكن أكتوبر نصرًا عسكريًا فحسب، بل كان يقظة أمة من غفوتها، وصرخةً في وجه اليأس، وإعلانًا أن التاريخ لا يكتبه الغزاة ولا يُصاغ في دهاليز الغرب، بل يُسطّره الرجال حين يواجهون النار بصدورهم، ويزرعون الأمل في تربةٍ سقوها بدمائهم. كان الجندي المصري في الخندق أشبه بآية تمشي؛ يحمل في صدره إيمانًا لا تهزّه الدبابات، وفي يده يقينًا يذيب الحديد ويهدم الجدران.
لقد كان نصر أكتوبر برهانًا خالدًا على أنّ الإرادة إذا اشتعلت، فإن الحديد يذوب، والجدران تنهار، والمستحيل يركع أمام عزيمة الرجال. ومن رحم مصر تخرج الأبطال جيلاً بعد جيل؛ أمهاتٌ زَرَعن أبناءهنّ كما تُزرع السنابل، فإذا حان موسم الحصاد، أطعمت الأمة عزًا وكرامة.
مصر ليست وطنًا يُرسم على خريطة، بل نهرٌ يجري في وجدان الأمة، وجرسٌ يوقظها من غفوتها، وبركانٌ إذا ثار طهّر الأرض من دنس المعتدين. هي التي وقفت حين سقطت العروش، وتكلمت حين صمتت الألسنة، وحملت على كتفيها قلوب العرب جميعًا، ثم أعلنت في السادس من أكتوبر أن الشمس لا تُحجب، وأن الليل مهما طال فجره قادم.
أكتوبر لم يكن يومًا في تقويم، بل كان ميلادًا جديدًا للتاريخ، وكان القصيدة التي كُتبت بالدم لا بالحبر، لتعلّم الأجيال أن النصر قرار، وأن الكرامة حياة، وأن مصر إذا قالت “ها أنا ذا” سكت العالم احترامًا.
واليوم، وبينما تتكالب قوى الغرب ويتهافت بعض العرب إلى موائدهم منتظرين منهم أن يقيموا دولة فلسطين، نعلم يقينًا أنّ الحرية لا تُستجدى من أعداء الحرية، وأنّ الحقوق لا تُمنح على أطباق المفاوضات الباردة، بل تُنتزع كما انتُزعت ضفة القناة بدماء الشهداء.
وفي ذكرى النصر العظيم نقول: إنّ أكتوبر ليس صفحةً في كتاب الماضي، بل منارة تهدي الطريق، ووقودًا يضيء الحاضر والمستقبل. فإذا كان لليل القدس من آخر، فلن ينقشع إلا بصبحٍ تُضيئه مصر. وإذا كان للوعد الباطل من رد، فلن يكون إلا بدماء رجالها وعرق أبنائها.
إنها مصر، التي إذا عزمت صارت قدرًا مكتوبًا، وإذا ثارت تحولت إلى بركانٍ يطهّر الأرض من دنس المعتدين. مصر التي ما زالت تُعلن للأمة في كل جيل: لن تسقط القدس، ولن تموت العروبة، ما دامت مصر واقفة تُنجِب الرجال وتكتب بالدم لا بالحبر.
واليوم، ونحن نحتفل بذكرى العبور العظيم، نرفع أبصارنا إلى مصر فنراها كما كانت دائمًا: درع الأمة الحصين، وحصنها الذي لا يُهدَم، وجيشها الباسل الذي لا يُقهر. جيشٌ عقيدته النصر أو الشهادة، وشعبٌ يلتف حول قائده بثقةٍ لا تهتز، وإرادةٍ لا تُكسر.
إننا نؤمن أنّ مصر، بقيادتها الواعية، وجيشها العظيم، وشعبها الأبي، قادرة على أن تُعيد للأمة توازنها، وللقدس فجرها، وللتاريخ هيبته. ومن أكتوبر نستمد اليقين أن القادم أفضل، وأن يد مصر – ما دامت ممدودة بالعزم – ستظل تكتب فصول المجد، وتفتح للأمة أبواب الغد المشرق.
فلتطمئن القلوب، ولتستبشر الأمة، فما دامت مصر واقفة، فلن ينكسر للعروبة جناح، ولن تنطفئ في القدس قنديل، ولن يغيب عن هذه الأرض فجر النصر أبدًا.

