قال الرئيس عبد الفتاح السيسي، مخاطبًا الشعب حين أطلق الانتخابات الأخيرة: «إذا أحد جه يعطيك أسطوانة غاز أو كوبون أو فلوس عشان تختار شخص غير جدير، فإنت ما كسبتش شيء» — مؤكّدًا أن «لا شيء تستلمه يساوي أن تمكّن من لا يستحق أن يحمل صوتك ومصالح وطنك».
وأضاف — مخاطبًا الهيئة القائمة على الانتخابات: «على الهيئة الوطنية للانتخابات أن تتدقّق في أي طعون أو شكاوى، وتعلن الإجراءات المتخذة كاملة، وتضمن أن من يدخل تحت قبة البرلمان هو بالفعل من اختاره الشعب بنزاهة».
ماذا لو؟
سؤال بسيط الملمس، لكنه يحمل في عمقه لهبًا يوقِظ ضمير أمة نائم.
ماذا لو توقفت انتخابات مجلس النواب فجأة؟
توقف لا يشبه عطلًا عابرًا، بل يقظة وطنية، كأن القطار الذي يركض بعجلة منذ سنوات أدرك أخيرًا أن السكة معوجة، فوقف احترامًا للمصير قبل أن ينقلب بمن فيه.
تخيلوا تلك اللحظة:
نسمة نقية تشق صدر ليل ثقيل، تمر فوق صحراء الجفاء، فتنبت فيها شجرة عدل.
لحظة صامتة، لكنها تهز ما لا تهزه الخطب، وتضبط ميزانًا اختل طويلًا، حتى صار المقعد أثمن من قيمة الناس.
إنها ليست ثورة شوارع، بل ثورة ضمائر.
ثورة هادئة، مهذبة، لكنها قادرة — لو صدقت — على قلب الطاولة دون أن تُكسر كؤوس.
ولو حدث ذلك، فسيقف الشعب بجلال خلف قيادة تُدرك أن الطريق لا يُصلح بعد أن تنكسر عظامه، بل قبل أن تُهان أرضه.
قيادة تدرك أن الوطن ليس ملعبًا للمصالح الضيقة، وأن الكلمة الشريفة أقوى من ألف ملصق انتخابي، وأن الناس — كرامتهم — لا تُشترى، بل تُحترم.
لكن الحقيقة المؤلمة، والتي صدمتني شخصيًا، أن نتائج هذه الانتخابات جاءت خادعة وغير حقيقية.
لقد شاهدت بأم عيني أن من كانوا يدّعون الشرف ومحاربة المال السياسي والرشاوي الانتخابية، انقلبوا إلى ألدّ أعداء للمبادئ التي كانوا يرفعونها.
عندما سنحت لهم الفرصة، لم يكتفوا بالتراجع عن وعودهم، بل أصبحوا يهنئون بعضهم بعضًا علانية، وكأنهم يتباهون بما كانوا يحاربونه بالأمس.
وهذا ليس مجرد إخفاق، بل فضيحة أخلاقية تكشف الوجه الحقيقي لأولئك الذين يبيعون المبدأ مقابل المصالح الضيقة.
وهنا، لا يمكن للضمير أن يغض الطرف عن أولئك الذين يقفون أمام اللجان محمّلين بأكياس المال، ظانّين أن الأصوات تُشترى بثمن، وأن ذمة الوطن تُباع بيوم ضعف.
من يفعل هذا — كما ذهب السيسي نفسه لتحذيرنا — ليس مرشحًا، بل مرتزق.
ليس أمينًا على صوت الشعب، بل تاجرًا في ضمائره.
كيف نثق في من يشتري الانتخابات اليوم، إن ثق بنا غدًا لاتخاذ قرارات تمس مصيرنا؟
وهنا يبرز السؤال، معلقًا فوق سماء الوطن كراية لا تنزل:
هل تتحد إرادة الشعب مع إرادة القيادة، فيعود التوازن إلى الحياة السياسية؟
ويُفتح باب جديد للتمثيل الصادق؟
أم أن الأحزاب والمزايدين سيجرفون المشهد نحو ذات الحفرة القديمة، حيث تُكرّر الوجوه على قياس مصالح ضيقة، في زمن تختفي فيه غيمة الأصلاء؟
نحن ننتظر الآن، كمن يقف عند شاطئ البحر لحظة انحسار الموج، متسائلين: هل سيعود الموج نقيًا ليطهر الشاطئ، أم سيأتي محمّلاً بطين المصالح والرشى؟
سنرى.
والتاريخ — ذلك الشاهد الصامت — سيكتب من انحاز للعدل، ومن انحاز للكرسي.
سيكتب من سمع نبض الناس، ومن تجاهلهم.
وسيسجل كيف تنهض أمة، فقط لأن عجلة توقفت لحظة، وأتت الضمائر لتعيد رسم الطريق الصادق من جديد.

