31 أكتوبر، 2025
مقالات

تهامي كرم يكتب : قيادة الإدارات التعليمية.. بين الرؤية والإرادة

في كل إدارة تعليمية يقف القائد الحقيقي كالبوصلة التي لا تُضلّ طريقها، يعرف اتجاه الهدف حتى لو تاهت السبل.
فليست القيادة منصبًا ولا توقيعًا في دفتر القرارات، بل هي قوة تأثير تنبع من الإيمان بالرسالة، ومن القدرة على صناعة التغيير لا انتظار التعليمات.

القائد يُلهِم… والمدير يُلزِم.
القائد يؤثر في النفوس… والمدير يوجّه العقول.
القائد يرى ما وراء المألوف… والمدير يحافظ على المألوف.
القائد يصنع المبادرة… والمدير يُتقن التنفيذ.
القائد يبني الإنسان قبل البنيان… والمدير يعتني بالنظام دون أن يتجاوزه.

ولهذا يُقال: “المدير يُدير الأشياء، أما القائد فيقود البشر”.

القائد الحقيقي في التعليم لا يخاف من الحركة، بل يخشى الجمود، ولا يتحدث عن الصعوبات، بل يفتّش عن الحلول.
هو من يرى في الأزمة فرصةً للتغيير، وفي المشكلة درسًا للتطوير، وفي الكارثة إنذارًا للتصحيح.

أنماط القيادة التعليمية

1. القيادة الأوتوقراطية (المتسلطة):
هي قيادة تُمارس السلطة بحدة، تُصدر الأوامر دون تشاور، وتُقاس بها الطاعة لا القناعة.
قد تحقق انضباطًا وقتيًا، لكنها تقتل روح المبادرة وتُضعف الدافعية.

2. القيادة الديمقراطية (المشاركة):
هي القيادة التي تُشرك الجميع في التفكير واتخاذ القرار، تفتح الأبواب للحوار، وتُثمر بيئة عمل تسودها الثقة والانتماء.
هذا النمط هو الأقدر على بناء فرق عمل ناجحة في المدارس والإدارات، لأنه يخلق قادة صغارًا في كل موقع.

3. القيادة التحويلية (الملهمة):
القائد التحويلي يُغيّر مفاهيم الناس تجاه العمل، يرفع طموحاتهم، ويخلق لهم هدفًا أكبر من الرواتب والتقارير.
هو من يحوّل المدرسة من مؤسسة تعليمية إلى كيان نابض بالحياة والفكر والإبداع.

4. القيادة الموقفية:
تقوم على المرونة، فالقائد يختار أسلوبه وفق الموقف والعاملين معه.
قد يكون حازمًا في وقت، وديمقراطيًا في آخر، ومتسامحًا عندما يقتضي الموقف ذلك.

5. القيادة التبادلية (الصفقية):
تعتمد على الحوافز والعقوبات.
وهي تصلح في بعض المواقف لضبط الإيقاع الإداري، لكنها لا تُلهِم، بل تُدير وفق مبدأ “أعطني لأعطيك”.

6. القيادة الأخلاقية (القيمية):
هي أرقى أنماط القيادة، لأنها تُدار بالقدوة لا بالكلمة.
فيها يتجسد العدل والنزاهة والشفافية، ويصبح القائد نموذجًا يُحتذى قبل أن يكون أمرًا يُطاع.

7. القيادة بالقدوة:
هي تاج الأنماط جميعها، وسر نجاح أي قائد في الميدان التربوي.
فالقائد الذي يلتزم قبل أن يُلزم، ويستمع قبل أن يأمر، ويعمل قبل أن يُطالب الآخرين بالعمل، يغرس في فريقه الإخلاص دون أن ينطق بكلمة.
إنه القائد الذي يُشعل شمعة في الميدان بدلًا من أن يلعن الظلام، فيراه الجميع مثالًا يحتذى.
ففي بيئة التعليم، القدوة هي أبلغ خطاب، وأقصر طريق إلى التغيير.

وأي الأنماط أفضل؟

القيادة المثلى ليست نوعًا واحدًا جامدًا، بل مزيج ذكيّ من الديمقراطية، والتحويلية، والأخلاقية، تتكيّف مع المواقف دون أن تفقد ثوابتها.
ففي الميدان التربوي، القائد الحق هو من يجمع بين الحزم والرحمة، وبين الهيبة والبساطة، وبين النظام والإبداع.
هو من يملك القدرة على ضبط العمل، مع الحفاظ على إنسانية من يعمل معه.

القائد والأزمات التعليمية

القائد الواعي لا يخلط بين المشكلة والأزمة والكارثة:

المشكلة: موقف محدود يمكن حله بقرار إداري (كعجز في معلم أو تأخر كتاب مدرسي).

الأزمة: حالة مفاجئة تمس سمعة أو استقرار المؤسسة وتتطلب إدارة ذكية وسريعة (كشائعة داخل مدرسة أو مشاجرة بين طلاب).

الكارثة: حدث استثنائي يهدد كيان المنظومة ويستدعي تدخلًا واسعًا من الجهات العليا (كحريق، أو انهيار مبنى، أو تسريب امتحان على مستوى إدارة كاملة).

القائد الحقيقي يتعامل مع كل حالة بما يناسبها:

لا يضخّم المشكلة حتى تصبح أزمة،

ولا يتهاون مع الأزمة حتى تتحول إلى كارثة.

فعندما تقع مشاجرة طلابية، لا يكتفي بالعقاب، بل يبحث عن الجذور: هل هو خلل في الإشراف؟ ضعف في التوعية؟ غياب في الأنشطة؟
وحين تتأخر الكتب أو تتكدس الفصول، لا يلوم الظروف فقط، بل يضع خطة توزيع عاجلة، ويخاطب المجتمع المحلي كشريك في الحل.

وفي الأزمات الكبرى كالتسريبات أو الغش الجماعي، يظهر الفرق بين المدير والقائد:
المدير ينتظر التعليمات،
أما القائد فيتحرك بخطة طوارئ، يؤمّن الموقف، ينسّق مع الجهات المعنية، ويحوّل التجربة إلى درس تطويري للإدارة كلها.

خاتمة
إن قيادة الإدارات التعليمية ليست وظيفة بل رسالة وطنية.
من يتولاها بحقّ، عليه أن يكون عقلًا مفكرًا، وقلبًا منصفًا، ويدًا عاملة.
القائد الحقّ لا يبحث عن الضوء، لأن إنجازه هو الضوء ذاته، ولا يطالب الآخرين أن يتبعوه، لأنهم يرون فيه القدوة فيتبعونه طوعًا.
” إن التعليم لا يُدار بالأوامر، بل يُقاد بالإلهام،
ولا يُصلح بالورق، بل بالإنسان.”
—————-

بقلم: تهامي كرم عبد الجليل
مدير مدرسة الشهيد مصطفى لطفي سلامة الثانوية بشنشور
إدارة أشمون التعليمية – محافظة المنوفية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *