التعليم في مصر ليس مجرد فصلٍ وكتابٍ وجرسِ حصة، بل هو السفينة التي تُبحر بالأمة نحو مرافئ النهضة. غير أنّ هذه السفينة تُبحر اليوم محمَّلة فوق طاقتها؛ إذ امتلأت مقاعد الفصول حتى غدت كعلبة مكتظة لا متنفس فيها للهواء ولا فسحة فيها للعقول. إنّها الكثافة الطلابية؛ العائق الأكبر أمام انطلاقة مصر التعليمية، والجدار الصلد الذي يصطدم به كل إصلاح.
إنّ المعلّم، وهو رُبّان المعرفة، لا يستطيع أن يوجّه سفينته وسط زحامٍ خانق، والطالب، وهو البذرة التي يُرجى لها أن تُثمر، لا يجد في تربة الزحام ما يكفيه من ضوءٍ أو ماء. فكيف نرجو حصادًا وفيرًا إذا كان البذر محصورًا في أرضٍ قاحلة لا تتسع له؟
لقد آن الأوان أن نكسر هذا الطوق، لا بالشعارات ولا بالحلول المكرورة، بل برؤى جريئة، تفكّر خارج الأسوار التقليدية، وتستمد من الواقع طاقتها ومن المستقبل أفقها.
—————-
رؤيتي المقترحة:
1. مدارس مرنة متعدّدة الوظائف: لِمَ لا تتحوّل المباني الحكومية والمراكز الشبابية إلى مدارس صباحًا ومراكز مجتمعية مساءً؟ هكذا نحصد من البنية الواحدة ثمرتين.
2. الفصول الذكية المتنقّلة: فصول تُشيّد في أسابيع قليلة بتقنيات البناء السريع، تُزرع كالبذور في القرى المزدحمة، فتتحوّل الصحراء إلى بساتين تعليمية.
3. التعليم المدمج: بعض الدروس عبر الفضاء الإلكتروني، وبعضها داخل الفصل للنقاش والتطبيق. فتقلّ الأعداد، ويتعلّم الطالب أن يبحر بنفسه في محيط المعرفة.
4. شراكة المجتمع والقطاع الخاص: ليتحوّل التعليم إلى وقفٍ معرفي، يساهم فيه الجميع تحت شعار “مدرسة لكل طفل”.
5. إعادة توزيع الموارد: أن ننقل المياه إلى الأرض العطشى، بإعادة توزيع الطلاب والمعلمين وفق احتياجات حقيقية، مع وسائل نقل آمنة تحفظ الكرامة.
“ما وراء الكثافة”
إنّ الكثافة الطلابية ليست سوى رأس جبل الجليد؛ فإذا كُسر، انكشفت تحته تحديات أخرى لا تقل خطورة:
مناهج تحتاج إلى نفَسٍ جديد يُشعل في العقول شغف التفكير لا ثِقَل الحفظ.
معلم هو العمود الفقري، يجب أن نُعيد له مكانته وندعمه بالعلم والتدريب.
بنية تكنولوجية لا تكون رفاهية، بل حقًا أصيلًا كالماء والهواء.
أنشطة تربوية تفتح للشباب أبواب الإبداع، وتصقل فيهم الشخصية المصرية الأصيلة.
“نظام البكالوريا المصري الجديد”
لقد جاء نظام البكالوريا المصري الجديد كنافذة أمل، ورؤية عصرية تفتح للطالب مسارات متعددة نحو الجامعة والحياة العملية. فهو نظام يُراهن على الإبداع، ويكافئ الموهبة، ويجعل الطالب فاعلًا لا متلقيًا، باحثًا لا حافظًا، صانعًا للمعرفة لا ناقلًا لها.
غير أنّ هذا النظام الطموح لا يمكن أن يُؤتي ثماره في أرضٍ مزدحمة خانقة. فكيف نزرع شجرة البكالوريا المثمرة إذا كانت الجذور في مراحل التعليم الأساسي محاصرة بزحامٍ يُميت الموهبة ويكتم الأنفاس؟
إنّ نجاح البكالوريا مرهون أولًا بـ القضاء على الكثافة في التعليم الأساسي، كي ينمو الطفل في بيئة تسمح له بالبحث والتجريب والتفكير النقدي. وحينئذ فقط، يصبح البكالوريا المصري جسرًا حقيقيًا نحو المستقبل، لا مجرد لافتة إصلاحية.
“كلمة للقادة والمسئولين”
لقد أجريتُ دراسة ميدانية في مدارس محافظة المنوفية، وقفتُ فيها على تفاصيل الواقع، وخرجتُ بمقترحات عملية قابلة للتنفيذ. وأنا أعلن من هنا استعدادي الكامل لمناقشة أي مسئول، أي قيادة، أي صانع قرار، حول هذه الرؤية.
إنّ القضية أعظم من كونها جداولَ وحسابات؛ إنّها معركة أمة مع الجهل، ورحلة وطن نحو المستقبل. ولستُ أزعم أنّني أملك الحلول السحرية، لكنني أؤمن أنّ الفكر الخلاق، إذا صادف قلبًا شجاعًا، قادرٌ أن يحوّل المستحيل إلى واقع.
أيها السادة.. التعليم ليس رفاهية ولا بندًا على هوامش الميزانية؛ إنّه المصنع الذي تُصاغ فيه عقول الرجال وتُبنى فيه جسور النهضة. فلنجعل من كل فصلٍ منارة، ومن كل تلميذٍ أملًا، ومن كل معلّمٍ قائدًا. عندها فقط، تستطيع مصر أن تكتب سطرًا جديدًا في سفر الحضارة، وتقول للعالم: هنا يُصنع المستقبل.
————–
✍️ كاتب المقال: تهامي كرم عبد الجليل
مدير مدرسة الشهيد مصطفى لطفي سلامة الثانوية بشنشور – أشمون، المنوفية