من جبل الزيت إلى جبل البركة.. حين تتكلم الأرض بغير ما اعتدنا سماعه.. حقل البركة اسم على مسمّى
أُتيحت لي الفرصة لزيارة حقل البركة، الذي يقع على بُعد نحو ٨٠٠ كيلومتر جنوب القاهرة، ويُعدّ أبعد نقطة في مصر يُنتَج منها البترول.
خلال جولتي داخل الحقل برفقة المهندس مدير الحقل المسؤول عن التشغيل والإنتاج، انتابني سؤال لم أستطع تجاهله:
من ذلك العقل الجريء، ذو البصيرة الثاقبة، الذي توقّع وجود بترول في هذه المنطقة النائية، التي تبعد قرابة ٦٠٠ كيلومتر عن أقرب حقل منتج في مصر، سواء في خليج السويس أو الصحراء الغربية؟!
منذ حوالي عشرين عامًا، كان الاعتقاد السائد – بل المسلّم به – أن صعيد مصر لا يحتوي على بترول.
بل إن كتب الجيولوجيا التي درسناها في الجامعة خُصِّصت بها فصول كاملة تُدرِّس صعيد مصر على أنه “رصيف ثابت” Stable Shelf (Said, 1990) لم يشهد حركات تكتونية تُحدث تراكيب مناسبة لتكوُّن المصائد البترولية.
لكن الأرض، كما التاريخ، لا تعترف بالمسلّمات.
ففي مطلع الألفية الجديدة، بدأ التفكير خارج الصندوق الجيولوجي التقليدي، مدفوعًا بجهود شركة جنوب الوادي المصرية القابضة للبترول (جنوب)، التي تأسست عام 2002 لتتولى مسؤولية استكشاف البترول بمناطق طالما ظلت خارج دائرة الاهتمام لعقود، وعلى رأسها صعيد مصر.
وجاءت المفاجأة التي لم يتوقعها أحد: فالصعيد – ذلك “الرصيف المستقر” في التصورات الجيولوجية القديمة – كان يخفي تحت سطحه أحواضًا ترسيبية واسعة، وتراكيب جيولوجية واعدة، ونظامًا بتروليًا متكاملًا.
وفي عام 2007، جاء إعلان الاكتشاف التجاري لحقل البركة في منطقة كوم أمبو بأسوان، بواسطة شركة دانا غاز، ليقلب المعادلة رأسًا على عقب.
أثبتت الدراسات اللاحقة وجود صخور خازنة من العصر الكريتاسي الأعلى، ونظام بترولي نشأ بفعل تراكيب صدعية (fault traps) نشأت نتيجة لحركات تكتونية متأخرة، وهو ما كان يتناقض تمامًا مع ما كُتب في مراجع الجيولوجيا لعقود.
لم يكن حقل البركة مجرد كشف بترولي، بل كان كشفًا معرفيًا، أعاد رسم الخريطة الجيولوجية لصعيد مصر، وفتح الباب أمام مزيد من الدراسات والأمل في اكتشافات جديدة في هذه المنطقة التي طالما نُظِر إليها على أنها خارج الزمن الجيولوجي.
ولمّا غادرت الحقل، كان في ذهني سؤال، وفي قلبي يقين.
فاسم “البركة” لم يكن مجرد مصادفة لغوية، بل كان امتدادًا لما رأيته بعيني:
بركة من الفكر الجريء، والاحتمالات المفتوحة، والإيمان بأن ما ترفضه الكتب قد تؤكده الصخور.
لقد أدركت أن البركة لا تأتي دائمًا من وفرة الإنتاج، بل من الاستمرار فيه، فحقل البركة، رغم تواضع معدلاته، ما زال يُنتج منذ ما يقارب العشرين عامًا، محافظًا على مكانته كأبعد نقطة منتجة للبترول في مصر.
ولعل هذا كان أحد أهم أسباب اختياري لهذه المنطقة لتسجيل رسالة الدكتوراه، والتي نشرت عنها عدة أبحاث علمية، كان آخرها في مجلة Marine and Petroleum Geology.
(عنوان البحث: [Structural geometry and tectonic evolution of an Early Cretaceous rift crossing the Nile Valley in Upper Egypt]
(رابط البحث)
https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0264817223001952
وهكذا، من جبل الزيت، حيث بدأت علاقتي بالبترول، إلى جبل البركة، حيث تعلّمت أن الجيولوجيا ليست علمًا جامدًا، بل حوار مستمر بين الإنسان والأرض… شرط أن نُحسن الاستماع.
لقد أثبت هذا الحقل أن المكان قادر على كسر المسلّمات، ومفاجأتنا بقدرة الأرض على البوح حين نحسن الإصغاء.