ما بين نضج خليج السويس وبدايات البحر الأحمر.. سؤال يعكس الواقع بصدق
كنت قد قررت التوقف مؤقتًا عن متابعة كتابة أجزاء هذه السلسلة التي بدأناها، لكن لفت انتباهي تعليق أحد القرّاء المهتمين بتاريخ البترول في مصر. كان سؤاله صادقًا، وواعيًا، ويعكس اهتمامًا عميقًا بتطورات صناعة البترول، خصوصًا في منطقتي خليج السويس والبحر الأحمر. كتب يقول:
“خليج السويس ينقسم جيولوجيًا إلى ثلاث مناطق: شمال، ووسط، وجنوب الخليج. وقد تم تنفيذ مسح استكشافي ضخم شمل هذه الأجزاء الثلاثة، نتج عنه آبار منتجة وأخرى جافة. والآن، وبعد عقود من الإنتاج، دخلت أغلب الآبار المنتجة مراحل الاستنزاف الأخيرة. شركة جابكو – على سبيل المثال – كانت تنتج في عام 2000 ما يقرب من 850 ألف برميل يوميًا، واليوم لا تتجاوز 40 ألف برميل.
فهل يعني ذلك أن خليج السويس قد استُنزف؟ وهل الأمل ينتقل الآن إلى البحر الأحمر، خاصة بعد اكتشافات الغاز في الجانب السعودي، بينما لم نرَ اكتشافات مماثلة بعد في الجانب المصري؟”
كان هذا السؤال بمثابة مرآة صافية تعكس الواقع كما هو، دون تجميل أو تهويل، وهو ما دفعني لاستئناف الكتابة، تشجيعًا لمحاولة تقديم إجابة وتوضيح الصورة كما ينبغي.
نعم، خليج السويس، ذلك الإقليم الذي حمل شعلة البترول المصري لأكثر من نصف قرن، يمر اليوم بمرحلة نضج جيولوجي واقتصادي. وهي نهاية طبيعية لدورة حياة الحقول البترولية، وليست مفاجأة غير متوقعة.
فمنذ خمسينيات القرن الماضي وحتى مطلع الألفية، ظل خليج السويس المصدر الرئيسي لإنتاج البترول في مصر. وكانت جابكو وحدها تنتج ما يقارب 850 ألف برميل يوميًا، وهو رقم يعادل إنتاج دول بأكملها آنذاك. أما اليوم، فقد انخفض الإنتاج في العديد من الحقول إلى أقل من 50 ألف برميل يوميًا، في مشهد يُعيد إلى الأذهان درسًا بسيطًا من دروس الجيولوجيا:
“ما يُستخرج من باطن الأرض لا يُعوض”
لكن يبقى السؤال مطروحًا:
هل انتهت قصة خليج السويس؟
الإجابة ليست بهذه القطعية. فالاستنزاف الظاهري لا يعني غياب الفرص.
الشركات العاملة، وعلى رأسها جابكو، دخلت مرحلة إعادة تقييم شاملة، مستخدمةً أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي، والاستكشاف في الطبقات العميقة (Deep Plays)، وتطبيق أساليب رفع معدلات الإنتاج (EOR) التي أثبتت نجاحها في حقول ناضجة حول العالم.
والأمثلة الحية لا تزال تظهر. ففي الأشهر الأخيرة، أعلنت شركة بتروجلف عن كشف بترولي جديد في GNN بجنوب خليج السويس، على بُعد أمتار فقط من حقل جيسوم الذي ينتج منذ الثمانينيات. التقديرات تشير إلى نحو 70 مليون برميل قابلة للاستخراج، بمعدل إنتاج أولي 2000 برميل يوميًا. رسالة واضحة: حتى الحقول التي ظنناها أنهت رحلتها، قد تخبئ فصولًا جديدة.
أما البحر الأحمر، فهو قصة أخرى تمامًا — بحر بكر نسبيًا، لم يخض بعد سباق الاكتشافات الكبرى على الجانب المصري. الجانب السعودي شهد مؤخرًا اكتشافات غازية واعدة، تؤكد أن النظام البترولي للمنطقة حيّ وفعّال. وعلى الضفة المقابلة، بدأت مصر في رسم ملامح الانطلاق.
خلال السنوات الأخيرة، أعادت شركة جنوب الوادي المصرية القابضة للبترول (GANOPE) أنشطة الاستكشاف وخاصة بعد ترسيم حدود المياه الاقتصادية مع الجانب السعودي، وطرحت قطاعات كبرى في مزايدة عالمية، فازت بها شركات بحجم شل، شيفرون، ومبادلة — وهو مؤشر ثقيل على ثقة واهتمام المستثمرين.
تلا ذلك تنفيذ أكبر مسح سيزمي ثلاثي الأبعاد في تاريخ المنطقة، من خلال مشروع مشترك بين الدولة والقطاع الخاص، وبمشاركة كبرى شركات الخدمات الجيوفيزيقية العالمية. وبهذا، وُضع حجر الأساس العلمي الصلب لمرحلة استكشاف قد تغيّر الخريطة البترولية في مصر.
وهنا، يقف البحر الأحمر على أعتاب فصله الأول في سجل الاستكشافات المصرية. إقليم واسع يمتد بمحاذاة سواحل طويلة، تتخلله تراكيب جيولوجية واعدة لم تُختبر بعد بالقدر الكافي (١٢ بئر بحري فقط)، ويختزن في أعماقه قصصًا لم تُروَ. فالمسوحات السيزمية الحديثة رسمت ملامح تراكيب واعدة ومعقدة في نفس الوقت وبها مؤشرات نظام بترولي متكامل، يجعل من البحر الأحمر — على الجانب المصري — مرشحًا لأن يكون مسرحًا لاكتشافات تغير موازين اللعبة، تمامًا كما فعل خليج السويس في ستينيات القرن الماضي.
الصورة المرفقة التُقطت من نافذة الطائرة عند النقطة التي يلتقي فيها الخليج بالبحر الأحمر، حيث تلوح جزيرة شدوان ككتلة صخرية معزولة وسط الزرقة العميقة، حاملة مفتاح العبور من الخليج إلى البحر الأحمر.
في الجزء القادم بمشيئة الله، سنفتح هذه الصفحة الجديدة، لنقرأ معًا كيف بدأت البذور الأولى لميلاد صناعة البترول في البحر الأحمر، وما الذي يجعل هذا البحر البكر محط أنظار شركات الطاقة الكبرى حول العالم.