((أهمية النظرية في استكشاف البترول))
خلال إحدى المحاضرات التدريبية لطلاب الفرقة الثالثة بكلية العلوم، فوجئت بأن معظمهم لا يرغبون في أي شرح أكاديمي نظري، بل يطلبون فقط التركيز على الجانب العملي المرتبط باستكشاف البترول. عندها قررت أن أوضح لهم أن الجانب النظري والمعملي الذي يدرسونه في الجامعة ليس ترفًا علميًا، بل هو الأساس الذي تقوم عليه الممارسة الميدانية في صناعة البترول منذ بداياتها في مصر.
سألتهم: كيف يمكنكم التعرف على الصخور في الحقل، مثل الحجر الجيري؟
أجابوا بثقة: من خلال اللون أو بإضافة بعض الأحماض ورؤية الفوران. عندها عرضت عليهم نوعًا من الصخور لم يروه من قبل، فلم يستطيعوا التعرف عليه. ثم انتقلت إلى مثال آخر عن الحفريات وكيفية التعرف عليها ميدانيًا، ولم ينجحوا كذلك في الإجابة.
وهنا بدأت أوضح لهم الفكرة الجوهرية:
التعرف على الصخور أو الحفريات في الحقل يعتمد أساسًا على قاعدة بيانات ذهنية تتكون من صور ومعلومات تراكمت لديك من الدراسة النظرية والتدريب العملي في المعمل. فعندما تواجه صخرًا أو حفرية جديدة، يقارن العقل بين ما يراه أمامه وبين ما خزّنه من صور سابقة، ليختار المطابقة الأقرب. لكن إن لم يكن لديك مخزون معرفي مسبق، فلن تتمكن من التفسير الصحيح. وهذا بالضبط ما يجعل المعلومات النظرية جزءًا لا غنى عنه قبل أي تطبيق عملي.
لقد مررت شخصيًا بتجربة مشابهة أثناء إحدى الرحلات الجيولوجية في عام 2017؛ فقد مررنا على تراكيب بدت لي وقتها مجرد ظواهر جيولوجية عادية أشبه بعلامات التموج (Ripple Marks). وبعد خمس سنوات، ظهر في الصحف العلمية خبر عالمي عن نفس الموقع، معلنًا عن اكتشاف آثار أقدام ديناصورات عاشت فيه منذ نحو 70 مليون سنة. لقد فاتني التعرف على هذا الكشف الهام أثناء زيارتي للموقع قبل نحو ثماني سنوات، لأن ذاكرتي لم تكن تحوي صورة مسبقة لآثار أقدام الديناصورات، فلم أتعرف عليها في وقتها، كما يتضح في الفيديو الذي التقطته وقتها وكان تركيزي فيه منصبًا على التراكيب الجيولوجية فقط.
هذا الموقف يذكّرنا ببدايات صناعة البترول في مصر. فجيل الرواد الأوائل الذين عملوا في خليج السويس والصحراء الشرقية لم تكن لديهم أجهزة متطورة أو بيانات سيزمية دقيقة كما هو الحال اليوم، بل اعتمدوا على ما تعلموه من الخرائط الجيولوجية والمشاهدات النظرية للحفريات والتراكيب. كانت قدرتهم على الربط بين ما في أذهانهم من معرفة وما يرونه في الطبيعة هي السبيل الأول للوصول إلى اكتشافات بترولية فتحت الباب لصناعة كاملة.
وهكذا، فإن أي تقدم في استكشاف البترول – سواء في الماضي أو اليوم – لا يمكن أن ينفصل عن القاعدة النظرية والمعملية. فهي التي تبني في عقل الجيولوجي مكتبة الصور التي تساعده لاحقًا على التفسير الصحيح، ومن دونها قد تفوته فرص استكشافية عظيمة، كما فاتتني أنا آثار أقدام الديناصورات.

