من جبل الزيت إلى جبل المغارة.. مصر بين الفحم والبترول
(وقف طفل صغير أمام والدته وهو يرتعش من قسوة البرد في أحد أيام شتاء عام 1929، وسألها ببراءة: لماذا لا تدفئين المنزل يا أمي؟ قالت الأم: لأنه لا يوجد لدينا فحم بالمنزل يا ولدي. فسألها الطفل: ولماذا لا يوجد فحم بالمنزل؟ أجابت الأم: لأن والدك متعطل عن العمل. وعاد الابن يسألها : ولماذا يتعطل أبي عن العمل؟ قالت الأم: لأنه يوجد فحم كثير بالأسواق يا ولدي.)
هذا النص ورد في مقدمة كتاب “الاقتصاد السياسي للبطالة” للدكتور زكي رمزي، الذي أشار إلى أن هذا الحوار القصير كان شرارة دفعته لتأليف كتابه، بعد أن عثر عام 1982 في مكتبه بالمعهد النمساوي للأبحاث الاقتصادية بمدينة فيينا على قصاصة ورقية صغيرة من إحدى الصحف الألمانية تحمل هذه القصة.
المفارقة الكبرى في الكساد العظيم (1929–1933)
لم يكن الكساد مجرد أزمة مالية، بل ضرب قلب الصناعات الكبرى وعلى رأسها الفحم:
وفرة الفحم لم تجلب الرخاء، بل أدت إلى انهيار الأسعار وتوقف المصانع وإفلاس الشركات.
ملايين العائلات واجهت الجوع والبرد رغم امتلاء الأسواق بالسلع.
هذه المفارقة التاريخية أبرزت أن وفرة الموارد بلا تنظيم تؤدي إلى الخراب بدلًا من الازدهار.
(من أزمة الفحم إلى صعود البترول)
في هذه الأجواء المأزومة بدأ البترول يفرض نفسه كمصدر بديل للطاقة للأسباب التالية:
سهولة النقل والتخزين.
أكثر كفاءة في تشغيل الصناعة والنقل.
طاقة مرنة قادرة على مواكبة المتطلبات الحديثة.
(الحرب العالمية الثانية): لحظة الحسم:
مع اندلاع الحرب العالمية الثانية (1939–1945)، ظهر الدور الحاسم للبترول بوضوح:
كان وقود الدبابات والطائرات والسفن الحربية، ما جعله السلاح الاستراتيجي الأول في المعارك.
وكان القانون السائد انه من امتلك موارد النفط استطاع أن يحافظ على استمرارية جيشه واقتصاده.
كثير من الحملات العسكرية ارتبط نجاحها أو فشلها بتأمين خطوط إمداد البترول (مثل حملة شمال أفريقيا، ومعركة ستالينغراد، والاندفاع الياباني نحو آبار النفط في جنوب شرق آسيا).
إن حوار الطفل وأمه لم يكن مجرد مشهد إنساني مؤثر، بل يعكس تحوّلًا عالميًا كبيرًا: من وفرة الفحم التي جلبت الكساد، إلى صعود البترول كملك جديد للطاقة، الذي أعاد تشكيل الاقتصاد والسياسة والحروب في القرن العشرين
(الحرب العالمية الثانية: مصر في قلب الصراع البترولي)
عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية (1939–1945)، تحوّل البترول إلى “الوقود الاستراتيجي” للجيوش. لم تكن مصر مجرد ساحة قتال، بل أصبحت محورًا رئيسيًا في حملة شمال أفريقيا، التي ارتبطت بشكل مباشر بسباق السيطرة على خطوط إمداد البترول:
قوات الحلفاء اعتمدت على قناة السويس كممر رئيسي لنقل البترول من الشرق الأوسط إلى أوروبا.
البنية التحتية المصرية (الموانئ، السكك الحديدية، والطرق) تحولت إلى عصب رئيسي لنقل البترول ومستلزمات الحرب.
معارك العلمين (1942) لم تكن فقط معارك عسكرية، بل معارك على “الطاقة”؛ فالحلفاء كانوا يسعون لضمان تدفق البترول من إيران والعراق عبر الخليج وقناة السويس.
(ما بعد الحرب: الطريق إلى بترول مصر)
بعد انتهاء الحرب، خرج العالم بإدراك كامل أن البترول هو “ملك الطاقة”.
هذا الإدراك انعكس على مصر في ثلاث نقاط رئيسية:
1. تسريع عمليات البحث والاستكشاف: حيث بدأت الشركات العالمية، التي أدركت أهمية خليج السويس، تكثيف جهودها لعمليات البحث والاستكشاف منذ أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات.
2. الاستقلال الاقتصادي والسياسي: مع ثورة 1952 وصعود الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، أصبح البترول ورقة استراتيجية في يد الدولة المصرية لتعزيز استقلالها الاقتصادي والسياسي، خاصة مع تصاعد الصراع حول قناة السويس وتأميمها عام 1956.
3. مصر كحلقة وصل نفطية: الموقع الجغرافي جعل مصر نقطة عبور رئيسية للبترول الخليجي إلى أوروبا، وهو ما تضاعف بعد إنشاء خط أنابيب السويس – البحر المتوسط (SUMED) لاحقًا.
على الرغم من أن الفحم كان لاعبًا رئيسيًا في الاقتصاد العالمي خلال الكساد العظيم، فإن مصر لم يكن لها نصيب يُذكر من هذه القصة.
إن مصر لم تعش “زمن الفحم” فعليًا، بل انتقلت مباشرة من وجودٍ محدود للفحم إلى مرحلة البترول التي وضعتها في قلب خريطة الطاقة العالمية. فالاكتشاف المؤكد لوجود الفحم في جبل المغارة في سيناء لم يتم إلا في عام ١٩٥٩ على يد الجيولوجي المصري درويش الفار، وذلك بعد الرحلات الجيولوجية الاستكشافية في صخور العصر الجوراسي. وحتى بعد هذا الاكتشاف، ظل إنتاج الفحم محدودًا ولم يغيّر من معادلة الطاقة في مصر.
ويجدر بالذكر أن اكتشاف الفحم في جبل المغارة لم يكن نتاج بعثة أجنبية، بل جاء على يد جيولوجي مصري (الدكتور درويش الفار) عام 1959، في لحظة فارقة جسّدت بداية الاعتماد على الخبرات الوطنية في استكشاف ثروات البلاد.
في المقابل، كانت مصر قد سبقت هذا التاريخ بخطوات في عالم البترول؛ إذ شهد جبل الزيت على خليج السويس محاولات مبكرة للاستكشاف والإنتاج منذ النصف الأول من القرن العشرين، ليتحوّل البترول إلى المصدر الحقيقي للطاقة الذي ارتبط بدور مصر الاستراتيجي في الحرب العالمية الثانية وما بعدها.


