«التحولات الفكرية الكبرى في خليج السويس»
في عالم الاستكشاف والبحث عن البترول، تظل المخاطرة والجرأة في التفكير هما مفتاح النجاح، فالاكتشافات الكبرى لم تكن يومًا ثمرة السير وراء المألوف، بل جاءت من عقول تجرأت على كسر القوالب التقليدية.
المخاطرة هنا لا تقتصر على الإنفاق المالي لتنفيذ برامج استكشافية مكلفة، وإنما تشمل قبل ذلك الجرأة الفكرية في إعادة قراءة البيانات، والنظر إلى الصخور والتراكيب الجيولوجية من زوايا غير مسبوقة.
وفي تاريخ خليج السويس، سطع اسم الجيولوجي الراحل عبد المجيد مصطفى كرمز لهذه الجرأة العلمية، هذا الجيولوجي العبقري (رحمه الله) لم يكن مجرد باحث ميداني فقط، بل صاحب رؤية غيرت مسار الاستكشاف في المنطقة لعقود، في عام 1976، طرح (مصطفى) فكرة جريئة غيرت المفاهيم السائدة حول التركيب الجيولوجي لخليج السويس.
كان الاعتقاد الراسخ آنذاك أن جميع طبقات خليج السويس تميل في اتجاه واحد نحو محور الحوض المنخفض (Rift Axis). غير أن (مصطفى)، بعد أن أعاد دراسة الخرائط الإقليمية للجاذبية والمغناطيسية ودمجها مع الخرائط السطحية، توصّل إلى أن الخليج ينقسم فعليًا إلى ثلاثة قطاعات رئيسية تختلف في اتجاهات ميول طبقاتها، وتتصل عبر مناطق تحويلية كبرى (Transfer Zones). هذا الاكتشاف الفكري، الذي عرضه في مؤتمر الهيئة المصرية العامة للبترول عام 1976، أحدث ما يُعرف في العلم بـ التحول النموذجي (Paradigm Shift).
Reference:
Moustafa, A.M., 1976: Block faulting of the Gulf of Suez. Presented at 5th Exploration Seminar, Egyptian General Petroleum Corporation, Cairo, 19 p.
لم يكن ذلك مجرد طرح أكاديمي، بل نموذج عملي انعكس مباشرة على تصميم المسوحات السيزمية، وعلى فهم مسارات هجرة البترول والغاز داخل الأحواض الترسيبية بالخليج، وقد فتح الطريق أمام استهداف مكامن أعمق من الميوسين، وأسهم في سلسلة من الاكتشافات التي عززت مكانة خليج السويس كأحد أغنى أحواض البترول في العالم.
تُظهر قصة الجيولوجي الراحل عبد المجيد مصطفى أن فكرة واحدة جريئة قادرة على أن تُخلّد اسم صاحبها في تاريخ صناعة البترول، تمامًا كما حدث مع البدايات الأولى في جبل الزيت، حيث لم يكن النجاح محض صدفة، بل ثمرة عقول تجرأت على إعادة التفكير والخروج من أسر النماذج التقليدية.
وإذا كانت جرأة الفكر قد صنعت تحولًا نموذجيًا في خليج السويس على يد الراحل عبد المجيد مصطفى عام 1976، فإن البحر الأحمر اليوم يقف على أعتاب لحظة مشابهة. فرغم مرور أكثر من نصف قرن على أولى محاولات الحفر البحري فيه، لم يتجاوز عدد الآبار المكتشفة في أعماقه ثلاثة عشر بئرًا فقط، وهو رقم متواضع إذا ما قورن بغنى الحوض وإمكاناته البترولية المحتملة. ويُعزى ذلك – جزئيًا – إلى غياب الأفكار الجريئة التي تعيد قراءة البيانات القديمة بعيون جديدة، وإلى هيمنة الحذر على قرارات الاستثمار، في ظل أعماق مائية أكبر وتراكيب جيولوجية أكثر تعقيدًا.
إن تجربة خليج السويس تُظهر بوضوح أن التحول لا يأتي من التكرار، بل من الجرأة في التفكير وكسر النماذج السائدة. فإذا ما طُبّقت هذه الروح على البحر الأحمر – عبر دمج بيانات الجاذبية والمغناطيسية الحديثة مع المسوح السيزمية ثلاثية الأبعاد التي تم تجميعها حديثا، وإعادة تصور دور الصدوع التحويلية (Transfer Zones) في التحكم بهجرة البترول – فقد نشهد ميلاد حقبة جديدة تضاهي ما حدث في خليج السويس في سبعينيات القرن الماضي.
وهكذا يصبح البحر الأحمر، لا مجرد امتداد جغرافي لخليج السويس، بل ساحة جديدة للتحولات الفكرية التي قد تفتح الباب أمام اكتشافات عملاقة تغيّر خريطة الطاقة في مصر والمنطقة.
ملاحظة: النسخة الأولى من هذا المقال نُشرت بقلمي في مجلة Egypt Oil & Gas Newspaper في يونيو 2019، ويُعاد تقديمه اليوم ضمن سلسلة “تاريخ صناعة البترول في مصر” في إطار يربط بين البدايات في جبل الزيت والتحولات الفكرية الكبرى في خليج السويس.


