حين تتحدث الصخور.. ملاحظة جديدة تعيد صياغة تاريخ جبل الزيت
في كل زيارة ميدانية إلى منطقة جبل الزيت أجد نفسي أمام ملاحظات ومشاهد جديدة، كأن هذه المنطقة لا تفصح عن أسرارها إلا لمن يمنحها وقتًا، ويمعن النظر في تفاصيلها الدقيقة. فمع كل خطوة على شاطئها الصخري أشعر وكأنني أقترب أكثر من صفحات مجهولة في تاريخ صناعة البترول بمصرنا الحبيبة.
وأثناء رحلتنا الجيولوجية الأخيرة التي كانت ضمن برنامج الترويج للمزايدة العالمية بالبحر الأحمر، اقتربت من الغرف الحجرية القديمة—التي ذكرتها في الحلقة السابعة من هذه السلسلة، والتي أرجّح أنها كانت مساكن لعمال حفر الآبار الضحلة أو العاملين في البحث عن خام الكبريت—فشدّني شيء لم ألتفت إليه سابقًا: مواد البناء نفسها.
فعند الاقتراب من جدران هذه الغرف، لاحظت أنها بنيت من قطع حجر جيري مرجاني متحجر (Reefal Limestone)، جُمعت على الأغلب من الشاطئ المجاور. لكن المفاجأة لم تكن في الحجر نفسه… بل فيما اكتشفته بعد لحظات.
إحدى الوقفات الجيولوجية التي كان من المفترض زيارتها في برنامج الرحلة كشفت لي مقطعًا رائعًا لحفرية شعاب مرجانية قديمة تظهر فيها البنية التفصيلية للشعاب بشكل مذهل—والمثير أن هذا المقطع نفسه لم يكن موجودًا في جدار الغرف، وربما لم ينتبه إليه أحد منذ عشرات السنين.
ولعل ما يزيد دهشتي أن الجيولوجيين القدامى الذين سكنوا هذه الغرف في الماضي قد فاتهم أمران مهمان:
1. أنهم لم يكتشفوا هذا المقطع الخلّاب للحفرية (في نهاية مقطع الفيديو)، رغم وضوحه لمن يدقق النظر.
2. أنهم لم يتصوروا أن يأتي يوم تصبح فيه هذه الصخور—الشعاب المرجانية المتحجرة—من أهم الخزانات البترولية في العالم، وأن التطور العلمي سيقودنا للبحث عنها بطرق استكشافية متقدمة بحثًا عن البترول والغاز.
إن رؤية هذه الصخور اليوم في جدران غرف بسيطة بناها عمال قبل عقود، بينما نعرف نحن الآن قيمتها العلمية والاقتصادية الهائلة، يجعل جبل الزيت يبدو وكأنه يبتسم بسخرية… فقد خبّأ أسراره داخل أبسط الأشياء، في حجارة جافة على الشاطئ، لم يدرك أحد وقتها أنها تمثل كنزًا جيولوجيًا سيغيّر مستقبل الصناعة لاحقًا.
الفيديو المرفق يوضح جزءًا من جدار إحدى الغرف، حيث يظهر التكبير (Zoom) بنية الشعاب المرجانية المتحجرة بكل تفاصيلها—في مشهد يجمع بين التاريخ الجيولوجي العميق، وتاريخ الإنسان الذي بنى بنفس الصخور دون أن يعرف قيمتها.
وهكذا، يثبت لنا جبل الزيت مرة أخرى أن الأرض لا تبوح بأسرارها إلا لمن يُصغي جيدًا.



