موسم يوقظ القلوب والعقول، في ظل انشغالات الحياة وضغوط العمل، تمر بنا مواسم عظيمة لا لتثنينا عن مهامنا، بل لتُعيد ترتيب أولوياتنا وتهذيب أرواحنا.
ومن أعظم هذه المواسم، العشر الأوائل من ذي الحجة، التي أقسم الله بها في كتابه الكريم:
{وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1-2]
وفي الحديث الصحيح: “ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام.” [رواه البخاري] فما الذي يمكن أن تُلهمنا به هذه الأيام في بيئة العمل؟
كيف نعيش روحها ونحن في مواقع الإنتاج، الإدارة، التخطيط، أو حتى تحت ضغط المهام اليومية؟
1. النية الصالحة… طاقة لا تنضب
النية في الإسلام أساس كل عمل، وهي الوقود الروحي الذي يحوّل كل جهد دنيوي إلى عبادة.
في العشر الأوائل، تُعلّمنا الشريعة أن تجديد النية يُكسب أعمالنا معنى أكبر.
فليكن شعار العامل:
“عملي هذا إتقان، وأجري على الله.”
ولمدير الفريق:
“قيادتي لفريقي أمانة، وسلوكي مرآة للحق.”
2. التضحية والعطاء… سمة القيادة النبيلة
ارتبطت العشر الأوائل بقصة إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل، حين بلغا قمة الإيمان بالتضحية والطاعة.
في بيئة العمل:
• التضحية قد تعني التنازل عن رأي لصالح الفريق،
• أو الصبر على ضغط العمل،
• أو تقديم الدعم لزميل في وقت الضيق.
القيادة الحقيقية تُقاس بالقدرة على العطاء… لا بالأوامر فقط.
3. ضبط النفس… عبادة يومية في المهنة
من أعظم ما يُتعلّم في هذه الأيام: الصبر، التواضع، وضبط الغضب.
وهذه فضائل مطلوبة بشدة في أجواء العمل التي لا تخلو من الخلافات والتحديات.
من يصبر على انفعال مديره،
ومن يعفو عن زميل أخطأ بحقه،
ومن يتجاوز عن تقصير غير مقصود…
هو الفائز الحقيقي في ميزان السماء… ومحبوب الفريق في بيئة العمل.
4. التكبير… إعلان ارتباطنا بالله في زمن الماديات
الله أكبر… شعار يتكرر في العشر، ليذكّرنا أن فوق كل مشروع، وكل منصب، وكل صفقة… ربٌّ أكبر.
وأن الموازنة بين العمل والدين ليست خيارًا، بل طريق للبركة والنجاح.
“الله أكبر” تعني: لا شيء في الدنيا يستحق أن يُبعدني عن طهارتي الروحية، وسلامي الداخلي، وأخلاقي المهنية.
5. الحج… درس في التنظيم والانضباط الجماعي
من أبرز شعائر هذه الأيام: الحج، وفيه تتجلى روعة التنظيم وانضباط الملايين من البشر في وقت واحد.
فليكن هذا درسًا لنا:
• أن النظام هو من جوهر الإسلام،
• وأن الإتقان في المواعيد، والمسؤوليات، والسلوك… عبادة عظيمة.
وختاما.. موسم لتجديد الذات وليس لتعليق العبادات، فالعشر الأوائل من ذي الحجة ليست مجرد موسم للتعبد الفردي، بل دعوة شاملة لتجديد العلاقة مع الله، والنفس، والناس، والعمل.
لنُتقن في هذه الأيام أعمالنا كما نُكثر من صلواتنا،
ولنرفق بزملائنا كما نرجو رحمة الله بنا،
ولنُصلح نوايانا، فنُصبح بعملنا من الفائزين بالأجرين: أجر الدنيا والآخرة.
….
كاتب المقال.. دكتور حمدي الهراس
كاتب في تطوير الأداء الإداري والصناعي والإنساني
📧 dr.hamdyelharras@gmail.com