21 مايو، 2025
مقالات

شحاته زكريا يكتب: مصر الصناعية.. من الجغرافيا إلى الجاذبية الاستثمارية

إذا كانت الجغرافيا قدرا فإن الاقتصاد صناعة القرار. وهذا ما يبدو أن مصر أدركته جيدا فى السنوات الأخيرة، وهى تنتقل من موقعها على الخريطة إلى موقع متقدم فى خريطة الاستثمار والإنتاج.
فما نشهده اليوم من توسع هائل فى الصناعات التحويلية وارتفاع لافت فى معدلات النمو الصناعى ، ليس مجرد نتائج طارئة ، بل مؤشر على تحوّل هيكلى جاد ، يعيد تشكيل المشهد الاقتصادى المصرى بعمق وهدوء.

اللافت أن هذا التحوّل لا يتركّز فى العاصمة فقط ولا يتمركز على ضفاف النيل فحسب ، بل يتمدد نحو الشرق والجنوب حيث نرى المنطقة الاقتصادية لقناة السويس تتحول إلى نقطة جذب عالمية تجرى فيها الآن عملية بناء أكثر من 140 مصنعا ، تضع هذه البقعة الحيوية على خريطة التصدير والتجميع وإعادة التوزيع الدولية.
وفى الوقت ذاته يستعيد صعيد مصر مكانته ، لكن هذه المرة ليس فقط من بوابة الزراعة ، بل من بوابة التصنيع الخفيف وخاصة صناعة الملابس ، التى تلقى رواجا فى أسواق أوروبا والخليج ، وتمنح الأيدى العاملة المصرية فرصة جديدة للتمكين.

والقيمة الحقيقية لما يحدث لا تتوقف عند عدد المصانع أو حجم الإنتاج ، بل تكمن فى الرؤية التى تقود هذا الحراك: التحول من اقتصاد يعتمد على الاستيراد ، إلى اقتصاد ينتج ويصدر وينافس.
تلك الرؤية التى أعادت إحياء قطاعات أُهملت طويلا وعلى رأسها الغزل والنسيج ، الذى يشهد الآن طفرة فى التحديث والتأهيل ، تفتح له أبواب الأسواق الأمريكية والأوروبية من جديد.

ولا يمكن الحديث عن تحول صناعى دون التطرق إلى ملف الطاقة. وهنا تبرز محطة الضبعة النووية كواحدة من أخطر وأهم أوراق المستقبل ليس فقط لما ستوفره من طاقة ولكن لأنها ستُعيد تموضع مصر كمركز علمى وتقنى ، قادر على إدارة صناعات كثيفة الاستخدام للطاقة وتغذية طموح تنموى واسع على امتداد الساحل الشمالى.

وفى خضم هذه التحولات لا تغيب إشارات الثقة الدولية. فالتقارير التى تصدر عن مؤسسات اقتصادية مرموقة، مثل التقرير السويسرى الأخير الذى وصف مصر بأنها مركز تجارى وإنتاجى صاعد فى أفريقيا.، تعكس تغير الصورة الذهنية لدى المستثمر الأجنبى وترجّح كفة السوق المصرية فى معادلات التنافس الإقليمى.

لكن التحدى الحقيقى لا يكمن فقط فى جذب الاستثمارات، بل فى الحفاظ عليها وتوسيعها. وهذا يتطلب بيئة تشريعية مستقرة وإجراءات أسرع وربطا أكثر كفاءة بين الإنتاج والبحث العلمى.، وبين التعليم وسوق العمل ، حتى لا يصبح النمو أرقاما فقط بل أثرا على حياة الناس .

إننا أمام لحظة مصرية تستحق التوقف والتأمل. لحظة تُعيد فيها الدولة تعريف دورها لا كمراقب لحركة السوق ، بل كصانع لفرص ومهندس لاقتصاد يُبنى من الطوب والرقم معا.
والأمل كل الأمل أن ننتقل من النقلة الصناعية إلى النهضة الشاملة التى لا تستثنى أحدا ولا تُبنى على الواجهة فقط بل على الأساس الصلب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *