في زمنٍ يضجّ بالصخب وتتسارع فيه الخطى حدّ اللهاث، يظلّ الإنسان يبحث عن موطئ سكينة، عن زاويةٍ في هذا العالم تمنحه يقين الطمأنينة تلك التي لا تُشترى ولا تُمنح بقرار، بل تُزرع في عمق الروح، فتنبت أمانًا يظلّل العمر بأكمله.
أمان الروح ليس مكانًا نلوذ به، بل حالة نبلغها حين تتصالح أرواحنا مع ما كان وما هو كائن، وما سيكون، هو تلك اللحظة التي لا يعود فيها الماضي عدوًّا ولا المستقبل هاجسًا، بل يصبح كلّ ما حولنا مقبولًا برضا يشبه التسليم الجميل والحكمة التي تأتي بعد طول تعبٍ من المقاومة.
إنّ أمان الروح لا يُولد من الخارج، بل ينبع من الداخل، فقد نظنّ أنّ الأمان يسكن وجوهًا نحبّها أو أماكن نألفها، لكن الحقيقة أنّه لا يسكن إلا في قلبٍ آمنٍ بذاته، واثقٍ بربّه، مطمئنٍ إلى أنّ كلّ ما كتبه الله كان خيرًا، حتى لو جاء متخفّيًا في هيئة ألم.
تلك الأرواح التي بلغت أمانها لا تخلو من الجراح، لكنها تعلّمت كيف تضمّدها بالرضا، لا تملك كلّ ما تشتهي، لكنها تحيا بإمتنان لما تملك. لا تخلو أيامها من الإختبار، لكنها لم تعد تخاف السقوط، لأنها أدركت أنّ يد الله لا تفلت من إلتجأ إليه حقًّا.
في أمان الروح، لا يعلو صوت القلق على نبض الإيمان. هناك، يصبح الصمت صلاة، والإنتظار عبادة، والدمعة طريقًا للصفاء. في أمان الروح، تهدأ العواصف دون أن تختفي، لكنها لم تعد تقدر على إقتلاع جذور اليقين.
وحين يبلغ الإنسان هذا المقام، تتغيّر رؤيته للعالم فيرى الخير في مواضع لم يكن يراه فيها، ويشكر على ما لم يُعطه، لأنه أدرك أنّ المنع أحيانًا عطاء في صورة أخرى ، يبتسم بعد العثرات، ويصافح الحياة بطمأنينة من يعرف أنّه في رعاية لا تغيب، وإن غابت عنها الأعين.
أمان الروح هو ذلك السلام الذي لا يشترط الظرف ولا ينهار أمام الحدث. سلام لا تصنعه الرفاهية، بل تصنعه القناعة. لا يولده الغنى، بل تنسجه القلوب التي تعلّمت أن ترى يد الله في كلّ تفصيله.
هو ما يجعلنا ننام على وسادة الرضا، ونستيقظ على ضوء الأمل، مهما إشتدّ ظلام الأمس. هو ما يجعلنا نبتسم رغم ما نفقد، ونواصل السير رغم التعب، ونظلّ نؤمن رغم الغياب.
ذلك هو أمان الروح حين تعود إلى أصلها، إلى الله، إلى الطمأنينة التي لا يُطفئها خوف، ولا يعكّرها ظنّ ، حين نعلم أنّ كلّ ما كتبه الله لنا هو طريقنا نحو هذا الأمان، وأنّ كلّ ما إبتعدنا عنه إنما أبعدنا عن أنفسنا أولًا.
فليكن أمانك في قلبك لا في العالم، وفي روحك لا في المكان، وفي يقينك لا في الناس، فمن وجد أمانه في داخله، لم يعد يخشى فقدان شيء خارجه.

