تمر كل عام احتفالات أعياد نصر أكتوبر المجيدة، محملة بذكريات الفخر والعزة، وتحويل الإنكسار إلى رفعة وانتصار، ولم تكن حرب أكتوبر وحده مصدرا للفخر والانتصار، ولكن سبقتها حرب الإستنزاف، وكذلك عمليات مخابرتيه كانت قاسمة للكيان الإسرائيلي، من رجال المخابرات المصرية، من هذه العمليات التي تدعوا للفخر برجال المخابرات المصرية، عملية تدمير الحفار الإسرائيلي، الذي أجرته اسرائيل للبحث عن البترول فى منطقة بلاعيم بخليج السويس، ويعد تنفيذ عملية تدمير الحفار الإسرائيلي والتي أظهرت التعاون والتنسيق الكامل وعلى أعلى مستوى بين المخابرات المصرية وزارة الخارجية ومؤسسة رئاسة الجمهورية وصناع السينما المصرية، حيث نجح فيها المصريون في تفجير حفار البترول «كنتينج-1» الذي اشترته إسرائيل، لكى تنقب به عن البترول في خليج السويس، وكانت تديره شركة اينى الإيطالية، وذلك أثناء توقفه في أبيدجان عاصمة ساحل العاج أثناء رحلته من كندا إلى إسرائيل، مانعة الحكومة الإسرائيلية من تنفيذ خطتها الرامية لنهب الثروات البترولية وفرض سيادة أكبر على سيناء المحتلة آنذاك.
البداية كانت عندما أعلن الكيان الإسرائيلي عزمه على شراء حفار بحري للتنقيب عن البترول بشواطئ منطقة بلاعيم بسيناء، وكانت حرب الإستنزاف مشتعلة في عام 1969، وكان الهدف من الإحتلال أن يظهر مصر أمام الجميع أن الغرض من شراء هذا الحفار ليس إقتصاديا فقط ولا إستيطانيا لثبيت أقدام الإحتلال، وإنما هو فى الدرجة العالم بمظهر الضعيف والعاجز عن الدفاع وحماية موارده الطبيعية والتي منها الآبار البترولية، فحقول البترول في سيناء كانت تنتج قبل إحتلالها حوالي 80% من إنتاج مصر من البترول.
وزيادة في الغطرسة الإسرائيلية لم يحيط الكيان الأسرائيلي عملية جلب الحفار بالسرية، بل صاحب ذلك ضجة إعلامية ضخمة من الكيان الإسرائيلي وصلت كل وسائل الإعلام في مختلف دول العالم كله، لإظهار مصر بموقف الضعيف، ولكنها أحاطت عملية نقل الحفار بالسرية الكاملة والكتمان والحراسة المشددة، وكان التحدي الأكبر أمام رجال المخابرات المصرية في القضاء على هذا الحفار قبل الدخول إلى المياه المصرية، سواء بتدمير حفار الكيان المحتل، قبل عبور مضيق باب المندب، أو ضرب الحفار مباشرة بالطيران الحربي، وكان الإختيار الأول، وبدأت عملية اصطياد الحفار، من مصدر تصنيعه وخط سير نقله إلى خليج السويس، وواصل رجال المخابرات المصرية العمل بالليل والنهار، ووضعوا الخطة وبدائلها خلال عملية البحث عن الحفار فى موانئ دول العالم التي تطل على البحار والمحيطات، في عملية وصفت بأغرب وأعقد المعارك وأشدها عنفا بين أجهزة المخابرات في العالم.
وكانت عملية البحث تتم تحت إشراف ومتابعة من الرئيس جمال عبد الناصر الذي سعي للوساطة مع دول العالم وعلى رأسهم الولايات المتحدة لوقف هذه عمليات الكيان الأسرائيلي فى استنزاف الموارد الطبيعية المصرية، وأرسل رسالة تهديد مضمونها «أن المنطقة ملتهبة ولاتحتاج إلى مزيد من الاشتعال، فمصر لن تسكت حتى لو أدى الأمر إلى ضرب الحفار بالطيران المصرى فى البحر الأحمر وقبل وصوله فى خليج العقبة»، ولكن كل التحركات الدبلوماسية للرئيس جمال عبد الناصر فشلت، فى الوقت التي كانت عملية اصطياد الحفار تتم بالتنسيق بين كافة الجهات، بناء على تكليف الرئيس جمال عبد الناصر تعليماته لجهاز المخابرات المصرية وكان يرأسها في ذلك الوقت «أمين هويدي»، بتدمير الحفار الأسرائيلي قبل أن يدخل المياه المصرية، وتم تشكيل مجموعة عمل من 3 أعضاء في الجهاز، كان من ضمنهم محمد نسيم الذي لقب بـ«قلب الأسد».. وتم تعيينه كقائد ميداني للعملية ومن خلال متابعة دقيقة قامت بها المخابرات المصرية تم الحصول على معلومات كاملة عن تصميم الحفار وخط سيره ومحطات توقفه.
وكانت أول محطة للحفارفي كندا، وقام جهاز المخابرات المصرية بكشف موقع الحفار كينتنج المملوك لشركة «بتروليا الكندية» في إحدى البحيرات الكندية، وكان يرسو أمام شاطئ كندا ، وأكتشفوا أن الحفار لا يصلح للعمل بالمياه الكندية وكانت القاطرة الهولندية التى إستأجرت لسحبه إسمها «جاكوب فان هيموكيراك» وكان تم تصميم الحفار للعمل لمسافة 10 آلآف قدم فى مياه عمقها 150 قدم، وكان الحفار سيعمل لحساب شركة «ميديار البريطانية»، التى تعاقدت معها إسرائيل للتنقيب عن البترول فى سيناء، وهذه الشركة كانت فرع من فروع شركة «كينج ريسورس الأمريكية» ومقرها مدينة دنفر بولاية كولورادو الأمريكية.
وكانت عملية نسف الحفار تحديا صعبا لمصر فى مواجهة خمس دول كبرى هى كندا وبريطانيا وأمريكا وهولندا وإسرائيل، وأبلغ أمين هويدى رئيس جهاز المخابرات العامة الرئيس عبد الناصر قدرة رجاله على تنفيذ المهمة مهما كانت التحديات، وتتبعت المخابرات المصرية تحركات الحفار من قناة إلى قناة، ومن شاطئ إلى جزر الأزور ثم المحيط الأطلنطى، وغرب أفريقيا إلى غانا، حيث نجحت الضفادع البشرية المصرية فى تدميره قبل تحركه إلى رأس الرجاء الصالح ثم إلى البحر ألأحمر، ووصلت برقية بالشفرة من إبيدجان إلى جهاز المخابرات المصرية يوم 8 مارس 1970، تحمل بين سطورها العديدة كلمة واحدة «مبروك»، وسجلت المخابرات المصرية إنتصارها فى عملية من أهم العمليات السرية فى القرن العشرين.
وقد بدأ الفريق الذي تم اختياره للعملية في اختيار مجموعة الضفادع البشرية التي ستنفذ المهمة فعليا بتلغيم الحفار تحت سطح الماء أثناء توقفه في أحد الموانئ الإفريقية، ورغم تكتم إسرائيل لتفاصيل خط السير، فقد تأكد الجهاز من مصادر سرية أن الحفار سيتوقف في داكار بالسنغال فسافر نسيم إلى السنغال تاركا لضباط المخابرات في القاهرة مسئولية حجز الأماكن المطلوبة لسفر طاقم الضفادع البشرية.
وفي دولة السنغال بغرب أفريقيا، قام نسيم باستطلاع موقع رسو الحفار، واكتشف أنه يقف بجوار قاعدة بحرية فرنسية مما يصعب من عملية تفجيره وبعد وصول الضفادع بقيادة الرائد خليفة جودت، فوجئ الجميع بالحفار يطلق صفارته معلنا مغادرته للميناء، وكان هذا أمرا جيدا برأي محمد نسيم لأن الظروف لم تكن مواتيه لتنفيذ العملية هناك.
واضطر رجال الضفادع للعودة إلى القاهرة، بينما ظل محمد نسيم قائد العملية في داكار، وكان وقتها مناسبة عيد الأضحى، ثم عاد للقاهرة ليتابع تحركات الحفار الذي واصل طريقه وتوقف في «أبيدجان» عاصمة ساحل العاج، ومرة أخرى يطير نسيم إلى باريس ومعه بعض المعدات التي ستستخدم في تنفيذ العملية، مع عملية تمويه بغصطحاب مجموعة ممثلين مصريين يقومون بتصوير فيلم فى غابات ساحل العاج، ليصل إلى أبيدجان مما أتاح له أن يلقي نظرة شاملة على الميناء من الجو ، واكتشف وجود منطقة غابات مطلة على الميناء تصلح كنقطة بداية للاختفاء والتحرك حيث لا يفصل بينها وبين الحفار سوى كيلومتر واحد، وفور وصوله إلى أبيدجان في فجر 6مارس 1970 علم نسيم بوجود مهرجان ضخم لاستقبال عدد من رواد الفضاء الأمريكيين الذين يزورون أفريقيا لأول مرة.
فأرسل في طلب جماعات الضفادع البشرية لاستثمار هذه الفرصة الذهبية لانشغال السلطات الوطنية بتأمين زيارة رواد الفضاء وحراستهم عن ملاحظة دخول المجموعات ، وتوجيه الضربة للحفار الذي يقف على بعد أمتار من قصر الرئيس العاجي «الذي كان تحت حمايته الشخصية»، وبدأ وصول الأفراد من خلال عمليات تمويه دقيقة ومتقنة وبمساعدة بعض عملاء المخابرات المصرية.
وتجمعت الدفعة الأولى من الضفادع مكونة من 3 أفراد هم الملازم أول حسني الشراكي والملازم أول محمود سعد وضابط الصف أحمد المصري، بالإضافة إلى قائدهم الرائد خليفة جودت، وبقى أن يصل باقي المجموعة حيث كان مخططا أن يقوم بالعملية 8 أفراد، وهنا بدأت المشاورات بين جودت ونسيم ، واتفقا على انتهاز الفرصة وتنفيذ العملية دون انتظار وصول باقي الرجال، خاصة أنهم لم يكونوا متأكدين من وجود الحفار في الميناء لليلة ثانية، ونزلت الضفادع المصرية من منطقة الغابات وقاموا بتلغيم الحفار، وسمع دوي الانفجار بينما كان أبطال الضفادع في طريق عودتهم إلى القاهرة.
وعلى عكس ما كان يهدف إليه الكيان الأسرائيلي، تحدثت صحف العالم عن الإنتصار المصري فى معركة تدمير الحفار، الذي كانت تهدف من ورائه إظهار مصر بموقف الضعف، وتحدثت عنها كل دول العالم، وإختيار مصر الصمت، جاءت رواية «الحفار» للكاتب المصري صالح مرسى، التى تحولت إلى مسلسل تليفزيونى وتجسدت وقائعه بين منصات حقول البترول البحرية بشركة بتروبل بمنطقة بلاعيم جنوب سيناء، وبجهاز الحفر البحرى سنفرو المملوك لشركة الحفر المصرية.
وكان لمؤسسة السينما المصرية دورا كبيرا، بالإضافة إلى دور المؤسسات المصرية مثل وزارة الخارجية وشركة النصر للاستيراد والتصدير، فتم تقسيم المجموعة لانتحال أسماء معينة ومنهم من سيسافر علي أنه من مؤسسة دعم السينما وذاهب إلي تلك الدولة لتصوير فيلم سينمائي مصري، ومنهم من يعمل في شركة النصر للإستيراد والتصدير، وبالفعل تم الاستعانة ببعثة سينمائية تصور فيلمين في غابات أفريقيا، الفيلم الأول كان بتعاون مصري نيجيري اسمه «ابن أفريقيا»، تأليف سيناريست مصري مقيم في لبنان يدعى «سيد المغربي»، وإخراج المخرج المصري حلمي رفلة وبطولة الفنانة نبيلة عبيد والفنانة مديحة كامل، ونوال أبو الفتوح، ومن نيجيريا فونزو أديولو وبوكي أجاي ودانيال آلالاد وبولاجي إكيكوبجن ومواليه سورزلاند، كعملية تمويه لاصطياد الحفار الإسرائيلي، ورغم فشل الفيلم فنيا، إلا أنه سجل فى سجل الملاحم الوطنية المصرية.
أما الفيلم الآخر الذي لعب دورا بارزا في مساعدة جهاز المخابرات المصرية، في عملية تدمير الحفار الإسرائيلي، فيلم «عماشة في الأدغال»، والذي كان بطولة الفنانين محمد رضا ونبيلة السيد وفؤاد المهندس وسيد زيان وصفاء أبو السعود وعبد السلام محمد وسهير زكي ونجوى فؤاد ومن إخراج محمد سالم، والذي كتبه عبد الرحمن شوقي، ومن انتاج شركة محمد سالم، وعلى عكس فيلم «ابن أفريقيا»، حقق فيلم عماشة في الأدغال نجاحا مذهلا، وأصبح أول فيلم في تاريخ السينما وقتها يحقق إيرادات ألف جنية في اليوم، رغم أن الهدف من الفيلم هى عملية تمويه لاصطياد الحفار الأسرائيلي.
وبعد تدمير الحفار الأسرائيلي الذي أحدث دويا هائلا فى رأس الكيان الأسرائيلي، وتابعته كل وسائل الإعلام في العالم، فى عملية مخابراتية مصرية خالصة، ضد أجهزة مخابرتية عظمى كانت تساند الموساد الأسرائيلي، فى عملية نقل الحفار إلى خليج السويس، لتثبت مصر للعالم أن المصري لا يوقفه عائق ويهوي صناعة المستحيل، وأن روحه دائما فداء للوطن، أى كان موقعه وأى كانت وظيفته، لتظل عملية تدمير وتفجير الحفار الأسرائيلي، ملحمة مصرية وطنية كسرت أنف العدو.