14 يونيو، 2025
مقالات

محمد بحيري يكتب: الثبات على المبدأ

قبل ربعِ قرنٍ وأزيدَ قليلًا، كنَّا مُتحلِّقينَ حولَ الراحلِ سعدِ فخري عبدِ النورِ، سكرتيرِ عامِّ الوفدِ، في هيئتِهِ البسيطةِ ومكتبِهِ العامرِ،
كانَ الرجلُ -نجلُ فخري عبدِ النورِ بك رفيقِ سعدِ زغلولَ- يُخفي ثقافةً ليبراليةً مُزجتْ بينَ أصالةِ الصعيديِّ الجرجاويِّ، وبينَ التعليمِ الفرنسيِّ الأرستقراطيِّ.

كانَ الوفدُ أواخرَ التسعينياتِ، قدْ أجهدتْهُ مواجهاتُ السلطةِ طوالَ ثمانيةِ عقودٍ، بدأَها معَ ميلادِهِ حزبًا في العشرينياتِ والثلاثينياتِ بمواجهاتٍ معَ الملكِ فؤادٍ، والإنجليزِ وأحزابِ الأقليةِ، ثمَّ مواجهاتٍ في أواخرِ الثلاثينياتِ وطوالِ الأربعينياتِ وأوائلِ الخمسينياتِ معَ الملكِ فاروقَ والإخوانِ المسلمينَ والإنجليزِ وأحزابِ الأقليةِ أيضًا، وعندما جاءتْ ثورةُ يوليو، لم يلبثْ أنْ تحالفَ خصومُ الوفدِ معَ ضباطِ الجيشِ والإخوانِ، فأجهزوا عليهِ، ليَبقى في عقولِ وصدورِ كوادرِهِ ومُحبِّيهِ إلى حينِ العودةِ الأولى في السبعينياتِ، والعودةِ الثانيةِ عامَ 1984، وما تبعَهُما من حربٍ ضروسٍ معَ الحزبِ الحاكمِ وقتَها، خاضَ الوفدُ انتخاباتِ 1984 ثمَّ 1987، وتعرضَ لمضايقاتٍ قاسيةٍ، منعتهُ من المشاركةِ عامَ 1990، ثمَّ ما لبثَ أنْ تعرضَ لتكسيرِ عظامٍ في انتخاباتِ 1995، بكلِّ أشكالِ التزويرِ الفجِّ، طوالَ تلكَ العقودِ، كانَ الوفديونَ يحملونَ الحزبَ على أكتافِهم، غيرَ عابئينَ بما سينالونَهُ من عقابِ السلطةِ، كانتْ كلمةُ السرِّ كما قالَها سعدُ فخري عبدُ النورِ، هيَ «الثباتُ على المبدأِ». ثباتُ الوفديينَ كانَ هوَ اللبناتُ التي استردتِ الوفدَ بعدَ حلِّ الأحزابِ السياسيةِ في الخمسينياتِ، وأذكرُ من حديثِ الراحلِ الكريمِ، أنْ أعطانا درسًا في الثباتِ على المبدأِ، وأنَّهُ أهمُّ ما في العملِ السياسيِّ، ضاربًا المثلَ بنماذجَ سياسيةٍ مصريةٍ وعالميةٍ، فالثباتُ على المبدأِ ليسَ مجردَ تمسكٍ بالرأيِ أو تصلبٍ في المواقفِ، بل هوَ التزامٌ عميقٌ بقيمِ الحقِّ والعدلِ والأخلاقِ، والسعيُ الدؤوبُ لتطبيقِها في شتى مناحي الحياةِ، مهما عظمتِ التحدياتُ أو تعددتِ المغرياتُ. لم يكنْ سعدُ فخري عبدُ النورِ، ممن يجيدونَ مهارةَ التنظيمِ الحزبيِّ، لكنَّهُ كانَ رمزًا لجيلٍ ذهبيٍّ، تربَّى على الالتزامِ بالحقِّ والعدلِ والأخلاقِ، والثباتِ على المبدأِ.

كانَ الوفدُ طوالَ عقودٍ، يتعرضُ لتزويرِ الانتخاباتِ.. لكنَّهُ لم ييأسْ من الوصولِ إلى الديمقراطيةِ عبرَ الصندوقِ، لم يُكفِّرْ حاكمًا، ولم يرفعْ سلاحًا ضدَّ السلطةِ المصريةِ على اختلافِ توجهاتِها، ولم يُزايدْ على أحدٍ في وطنيتِهِ، وأذكرُ من حديثِ سعدِ فخري عبدِ النورِ، أنَّ بريطانيا في عهدِ تشرشلَ وأثناءَ الحربِ العالميةِ الثانيةِ، أُقيمتْ دعوى أمامَ قضائِها تُطالبُ بنقلِ مطارٍ حربيٍّ قريبٍ من مدرسةٍ، لأنَّ أزيزَ الطائراتِ عندَ إقلاعِها وهبوطِها يُحدثُ صوتًا يُعطِّلُ سيرَ التدريسِ فيها، وقضتِ المحكمةُ البريطانيةُ، بنقلِ المطارِ إلى جهةٍ أخرى بعيدةٍ عن التجمعِ العمرانيِّ مما أحرجَ السلطاتِ العسكريةَ البريطانيةَ، حاولَ الجيشُ البريطانيُّ، الذي كانَ يواجهُ هجماتِ الألمانِ، إيقافَ تنفيذِ الحكمِ، لكنَّ تشرشلَ، قررَ تنفيذَ الحكمِ، وقالَ عبارتَهُ الشهيرةَ: «أشرفُ لبريطانيا أنْ تخسرَ الحربَ منْ أنْ يُقالَ إنَّها لم تُنفِّذْ حكمَ محكمةٍ»، كانتِ السياسةُ ثباتًا على المبدأِ،
فالمبدأُ هوَ الباقى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *