19 أغسطس، 2025
مقالات

دكتور حمدي الهراس يكتب:  الذكاء الاصطناعي… قوة تغيير جذرية تعيد رسم خريطة سوق العمل

قراءة تحليلية في عمق التحوّل الإنتاجي العالمي.. حين يتحوّل الذكاء الاصطناعي من أداة إلى قوة ضغط إنتاجي

شهد العالم عبر التاريخ ثورات تقنية قلبت موازين العمل والإنتاج، إلا أن ما نشهده اليوم مع الذكاء الاصطناعي (AI) ليس مجرّد تحديث تقني، بل تحوّل بنيوي في فلسفة العمل نفسها. فالذكاء الاصطناعي تجاوز دوره كـ”مساعد رقمي”، وأصبح لاعبًا مركزيًا في تقليص التكاليف، وتسريع الأداء، وإعادة صياغة خرائط الموارد البشرية.

أولًا: الذكاء الاصطناعي كـ “صدمة إنتاجية” disruptor وليس مجرّد أداة

ما يميّز الذكاء الاصطناعي عن سابقه من الأدوات هو تأثيره المتسارع والمضاعف؛ إذ يمكن لمؤسسة أن تنتقل من الاعتماد على 30 موظفًا إلى 5 فقط خلال شهور، مع الحفاظ على نفس مستوى الإنتاج — أو تحسينه. وهذا ما يصفه الاقتصاديون بـ “Productivity Shock” أو “صدمة إنتاجية”، تُغيّر شكل العرض والطلب على الوظائف، وتُحدث خلخلة في التوازنات التقليدية.

مثال:

وفقًا لنمط متكرر تلاحظه الأسواق الرقمية، يمكن تخيل مؤسسة كانت تعتمد على عشرات الموظفين، لكنها استطاعت إنجاز المهام نفسها باستخدام عدد أقل بكثير بعد دمج الذكاء الاصطناعي في دورة العمل.

ثانيًا: التبعات الاقتصادية والاجتماعية العميقة

التحوّل الناتج عن الذكاء الاصطناعي ليس تقنيًا فقط، بل يمتد إلى مفاهيم أساسية مثل:
• تعريف الوظيفة: من مهام روتينية إلى أدوار إشرافية وتحليلية.
• توزيع المهارات: الطلب يتحوّل من المهارات اليدوية إلى المهارات الرقمية والذكاء العاطفي والتحليل الاستراتيجي.
• الفجوة المهارية: المجتمعات التي لا تواكب هذا التغير عبر التعليم وإعادة التأهيل ستعاني من معدلات بطالة مرتفعة وفقدان القدرة التنافسية.

ووفقًا لتقارير منتدى الاقتصاد العالمي (WEF)، فإن ما يقرب من 44% من مهارات الموظفين ستتغير خلال السنوات الخمس القادمة بسبب الأتمتة والذكاء الاصطناعي.

ثالثًا: هل هناك وظائف آمنة في عصر الذكاء الاصطناعي؟

الواقع أن الذكاء الاصطناعي لا يُلغِي جميع الوظائف، بل يُحوّلها ويُعيد تعريفها. من المتوقع أن تنمو وظائف مثل:
• تحليل البيانات وتفسيرها
• أمن المعلومات السيبراني
• تصميم وتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي
• الإشراف البشري على الأنظمة المؤتمتة
• الذكاء العاطفي وخدمة العملاء التفاعلية

إذًا، الذكاء الاصطناعي لا يُقصي الإنسان، بل يُجبره على الصعود درجة أعلى في سلّم القيمة المضافة.

رابعًا: ما الذي يجب على الحكومات والمؤسسات فعله الآن؟
1. إعادة هيكلة التعليم ليشمل مهارات الذكاء الاصطناعي والتحليل والنقد والتكيف.
2. برامج تدريب وتحول مهني للكوادر الحالية، خصوصًا في القطاعات المُهددة.
3. تحفيز الاستثمار في المهارات الناعمة (Soft Skills) التي لا يستطيع الذكاء الاصطناعي محاكاتها بالكامل.
4. صياغة تشريعات مرنة تراعي التحولات وتوازن بين الأتمتة والحماية الاجتماعية.

ختامًا: بين التهديد والفرصة

الذكاء الاصطناعي ليس عدوًا للعمل، بل فرصة لإعادة التفكير في الكفاءة والإنتاج والإنسان. من سيتعامل معه بوعي وتخطيط سيكون من بناة المستقبل، أما من يتجاهل حتميته فسيجد نفسه خارج السياق.

البقاء في سوق العمل اليوم لا يُقاس بالمؤهل فقط، بل بالقدرة على التعلُّم المستمر، وسرعة التكيف، وحسن استثمار الأدوات الجديدة.

د. حمدي الهراس
كاتب في تطوير الأداء الإداري والصناعي والإنساني
‏📩 dr.hamdyelharras@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *