ليست المدرسة حجارةً تُرصّ ولا سبورةً تُخطّ عليها الكلمات، بل هي كائن حيّ، له قلبٌ يخفق، وروحٌ تسري، وذاكرة تنبض. وقلبها النابض هو معلمها الفارق، الذي إذا حضر أضاءت أركانها، وإذا غاب ارتجف بنيانها. هؤلاء قلة، لكنهم أعمدة لا تنكسر، وقناديل لا تنطفئ.
المعلم الفارق ليس صفحةً في دفتر ولا اسمًا في جدول، بل هو كتابٌ كامل تكتبه الأيام بحروفٍ من الصبر، وفصولٍ من البذل، وأسطرٍ من الإخلاص. إنّه كالنبع المتجدد، كلما ارتويت منه وجدت ماءً أصفى وأعذب، وكالشجرة العتيقة التي تحمل ظلًّا وثمارًا في آنٍ واحد، تأوي إليها النفوس في طمأنينةٍ واعتزاز.
هو لا يشرح درسًا فقط، بل يكتب في أرواح طلابه قصائد من الحكمة، ويزرع في عقولهم بذورًا من المعرفة، تسقيها الأيام حتى تصير غابة من الفهم الراسخ. حصته ليست ساعةً زمنية تنقضي، بل هي مجلس من المجالس المضيئة، فيه للعلم هيبة، وللنفس راحة، وللروح حياة.
وحين تشتد الأزمات في المدرسة، تجده ميزانًا يزن بحكمة، وجدارًا يردُّ العاصفة، ومرفأً تلجأ إليه السفينة في زمن العواصف. وإذا ضاق الطريق، كان هو النور الذي يرشد، والدليل الذي يقود. إنّه العصب الذي يشدّ الأركان، والوتد الذي تُربط به الخيام، والنبراس الذي يضيء الدروب.
وليس رحيله كرحيل غيره؛ فإذا غادر مدرسةً ما، لم تفقد موظفًا قابلاً للتعويض، بل تفقد ذاكرةً مكتوبة بمداد العرق، وعلاقاتٍ صاغتها المواقف، وسمعةً شُيّدت على عطائه. هو كالجوهرة النادرة، إذا خرجت من تاجٍ فقد بريقه، وإذا انتقلت إلى موضعٍ آخر زادته رفعةً ولمعانًا.
ولعلّ ما يوجع القلب أن مثل هذا المعلم لا يغيب بغتةً، بل يرسل إشاراتٍ تلو إشارات، كالسحاب الذي ينذر بالمطر، أو كالغصن الذي يئن قبل أن ينكسر، غير أن كثيرًا من الإدارات تغفل عنه وتظن أن الكل يتعوض. لكن الحقيقة أن بعض الغياب يترك ثقبًا في الروح لا يسده الزمان، وبعض الفقد يطفئ شعلةً لا يوقدها غير صاحبها.
ومن بين هؤلاء الكبار يسطع اسم الأستاذ عمرو الأودن، الذي لا يُذكر إلا وتتبعه كلمات العظمة والوفاء. هو ليس معلمًا فحسب، بل قدوةٌ متحركة، ورمزٌ للتعاون مع إدارة المدرسة وزملائه، وجنديٌّ مجهول يعمل في صمت، لكنه يترك في كل ركن أثرًا يشبه البصمة التي لا تزول.
هو الغصن المثمر الذي لا تنقطع ثماره، والجدول الرقراق الذي لا ينضب ماؤه، والريحان الذي يعطر المكان ولو في صمت. هو كالنسمة الرقيقة التي تطفئ لهيب يومٍ قائظ، وكالشمس التي تشق الغيوم لتزرع في النفوس نورًا وأملًا. وجوده لا يُشبه وجودًا عابرًا، بل يشبه وتدًا يشدّ الخيمة، أو جذرًا يربط الشجرة بالأرض، فإذا اقتُلع اهتز المكان كله.
وإذا قدّر له أن ينتقل إلى مدرسةٍ أخرى، ففراقه ليس انتقالًا لاسمٍ في جدول، بل اقتلاع لجزءٍ من الروح، وغياب لظلٍّ ألفناه، وغياب لصوتٍ كان كالموسيقى في أروقة المدرسة. ستبكيه الجدران التي شهدت عطاءه، وستفتقده الساحات التي عرفت خطاه، لكن عزاءنا أنه حيثما حلّ أضاف، وحيثما وُجد أشعل مصابيح النجاح من جديد.
ولذلك نقولها بقلوبٍ يملؤها الامتنان:
أيها الأستاذ عمرو الأودن… كنت لنا عمودًا لا ينكسر، وقنديلًا لا ينطفئ. كنت لنا ملاذًا وقت الأزمات، ورفيقًا وقت العمل، وقدوةً وقت العطاء. وإن كان فراقك عن مدرستنا قدرًا، فذكراك ستبقى قدرًا أجمل، وأثرك سيظل فينا كالوشم الذي لا يُمحى، والدليل على أن التعليم لا ينهض إلا بالكبار من أمثالك.