في عالمٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتبدل فيه موازين القوى الاقتصادية، ما زالت مشكلة الفقر تمثل جدارًا سميكًا يقف في وجه التنمية في دول العالم الثالث، ومع أن الخطط الحكومية التقليدية وبرامج الدعم الاجتماعي لم تُحدث التحول الجذري المنشود، فإن موجة جديدة من الحلول غير التقليدية بدأت تلوح في الأفق، تحمل معها وعودًا بتغيير جذري في بنية الاقتصاد والفكر التنموي.
تاريخيًا، ارتبطت التنمية في الدول الفقيرة بالمساعدات الخارجية، سواء من الحكومات أو المؤسسات الدولية. غير أن التجارب أثبتت أن الاعتماد على المساعدات وحدها لا يخلق تنمية مستدامة، بل يرسّخ التبعية.
اليوم، يتجه العديد من الخبراء إلى تبني فكر “الاقتصاد القائم على الابتكار”، حيث تُستثمر طاقات الشباب في مشاريع صغيرة تعتمد على التكنولوجيا المحلية، والحلول الذكية للمشكلات اليومية، مثل الزراعة الرقمية، والطاقة الشمسية، والتجارة الإلكترونية المحلية
لم يعد التحول الرقمي رفاهية، بل أصبح سلاحًا اقتصاديًا بيد الفقراء، فالهاتف الذكي والإنترنت يتيحان اليوم للمزارع أو الحرفي أن يبيع منتجاته مباشرة، ويتعلم مهارات جديدة، ويدير مشروعه دون الحاجة إلى رأس مال ضخم.
تجارب من كينيا ونيجيريا تُظهر كيف ساعدت خدمات الدفع الإلكتروني مثل M-Pesa في إدماج ملايين الأشخاص في النظام المالي الرسمي
ويتجه العالم اليوم نحو ما يُعرف بـ“اقتصاد المهارات”، حيث لم تعد الشهادة الجامعية كافية لدخول سوق العمل، التجارب الحديثة أثبتت أن تدريب الشباب على مهارات مثل البرمجة، التسويق الرقمي، التصميم، وإدارة المشاريع يمكن أن يرفع دخل الفرد أضعافًا.
تزايدت مؤخرًا المبادرات التي تدمج بين حماية البيئة والتنمية الاقتصادية، خصوصًا في مجالات الطاقة المتجددة وإعادة التدوير، ففي دول إفريقية وآسيوية، أصبحت النفايات مصدر دخل وفرص عمل، والمزارع الشمسية تولّد الكهرباء وتفتح أبواب الرزق.
لا يمكن الحديث عن اقتصاد بلا فقر دون بناء إنسان منتج ومتعلم، إن الاستثمار في التعليم العملي وريادة الأعمال هو أساس التغيير فالمناهج الجديدة التي تربط التعليم بسوق العمل، وتُشجع على التفكير النقدي والإبداعي، قادرة على تحويل المجتمعات الفقيرة إلى مراكز نمو وابتكار.
يبدو أن القضاء على الفقر لم يعد حلمًا مستحيلًا، بل تحديًا قابلًا للتحقيق إذا ما تم تبني فكر اقتصادي جديد يعتمد على الابتكار، والاستدامة، وتمكين الأفراد بدل إعالتهم، فالعالم الثالث لا يحتاج إلى مزيد من المساعدات، بل إلى إطلاق العنان لإمكاناته الكامنة، لتتحول معادلة “العجز والانتظار” إلى “الإنتاج والاكتفاء”
كاتب المقال: اللواء محمد رجائي مساعد وزير الداخلية السابق

