صاح الحاجب بصوته الجَهوري: “محكمة”! هبّ الحاضرون واقفين، وعمَّ السكون أرجاء القاعة. كأن الصمت ارتدى وقاره، وجلس يراقب.
مدّ القاضي كفّيه في الهواء، فجلس الجميع في خشوعٍ متوتر. جلس هو الآخر، وجال ببصره بين المقاعد حتى استقرّ على القفص الحديدي الممتلئ بالأجساد الصغيرة.
أشار إلى الحُرّاس: “أخرجوا الأطفال”. تحرك أربعة عشر طفلًا نحو مؤخرة القاعة. تراوحت أعمارهم بين الثالثة عشرة والثامنة عشرة، كأنّهم ظلّ واحد ممتد، يتمايل على عتبة الخوف. جلسوا متلاصقين، وجوههم مرسومة بريشة الذعر، وعيونهم تتقافز بين الأرض والجدران، كمن يبحث عن رحِمٍ بديل. غُرباء عن هذا المشهد، وعن هذه القاعة التي تزدحم بأكثر من القوانين.
فتح القاضي الجلسة. فض الأحراز. عُرضت على الشاشة الكبيرة مقاطع مصورة: تظاهرة صاخبة، هتافات ضد الدولة، لافتات وشتائم تُلقى على الجيش والشرطة والقضاء. تتابعت اللقطات: شماريخ مشتعلة، محلات تُحرق، سيارات تُحطّم، وطرق تُغلق بإطاراتٍ سوداء.
ثم ظهرت وجوه الأطفال… يركضون، يهتفون، يلوحون بالشعارات، تحرّكهم نشوة اللحظة، وتشُدّهم خيوط لا يعرفون لونها. يُقلّدون الكبار بحماسةٍ عبثية.
أشار القاضي للفني فأوقف العرض. أدار رأسه نحو المؤخرة: ”تقدّموا”. وقفوا. وتقدّموا. تسحبهم رهبة اللحظة كما تسحب الموجة أصدافها. تسبقهم نظرات الارتباك، تتبعهم أنفاس الخوف.
عاد العرض، هذه المرة بالحركة البطيئة. عين القاضي تتنقّل بين الشاشة ووجوههم. كأنّه يفتّش عن نية خفيّة، أو نضجٍ يبرر الحكم. يبحث عن شيء لا يدريه. “أأنتم مَن في المقطع”؟هزّوا رؤوسهم صامتين بما يعني نعم… لم يُنكر أحد.
ساد صمتٌ ثقيل. الأعين شاخصة نحو القاضي، والأعناق مشدودة إلى قراره. أطرق برأسه، واستغرق في شروده. توالت الوجوه في ذاكرته: صغيرة خلف قضبانٍ كبيرة، أعمار تُطوى، وملفات تُغلق على براءةٍ لم تنضج.
تساءل في داخله: هل يدرون ما فعلوه؟ هل يؤمنون بما هتفوا به؟ هل يفهمون لماذا كانوا هناك؟ أم أنهم فقط… لعبوا لعبة الكبار؟
تسلّل صوت داخلي، ببرودٍ قانوني: “مهما كانت نواياهم… فقد صاروا مجرمين.” لكنه شعر بشيء يخنقه. ليس القانون، بل الضمير.
استفاق. سحب نفسًا عميقًا، وزفرة ببطء. نطق أخيرًا، بصوت خافت، كأنّه يُخاطب أبناءه: “لماذا فعلتم هذا”؟
ارتد السؤال في القاعة كصفعة. ثم أجاب صبيٌّ نحيل، لم يبلغ الخامسة عشرة، بصوتٍ متهدج: “قالوا لنا… كل واحد سيحصل على ”تيشيرت؟ ومائة جنيه بعد المظاهرة…
رمقهم القاضي طويلًا، كأنّه يبحث في أعينهم عن ذنبٍ واضح… أو وعيٍ بما اقترفوه. فلم يجد إلا الخوف، والطفولة، والحيرة. سكت… رفع الجلسة للمداولة.
في المداولة كان المشهد وحده، بوجوههم، وبما لم يقولوه، كان كافيًا لإدانة زمنٍ بأكمله. رفع بصره نحو ثم أغلق الملف أمامه، وهمس في داخله: ”الملف أُغلق، لكن السؤال بقي هناك… يُلطّخ ضميرًا لن يجف، لأن الحكم لم يُكتب بالحبر… بل بالدمع.
انتهت المداولة. عاد القضاة إلى المنصة. نظر رئيس الجلسة إلى شعار القاعة: “العدل أساس الملك.”. نطق قائلا: “براءة”.