التوثيق الأول للاستكشاف البترولي في مصر: دراسة حالة فيلم «للرجال فقط»
في الحلقة الخامسة، تحدثنا عن جبل الزيت باعتباره “مفتاح المقبرة الجيولوجية” التي أخفت أسرار البترول لقرون، وركّزنا على طبيعة الصخور الحاملة، وأهمية الشعاب المرجانية القديمة.
أما في هذه الحلقة السادسة، فننتقل إلى الشق البشري والفني لصناعة البترول، ونسلط الضوء على بدايات الحفر البري، والتوثيق السينمائي النادر عبر فيلم “للرجال فقط”. ثم نستعرض تحولات تقنيات الاستكشاف في ستينيات القرن الماضي، ونقارنها بأدوات اليوم الأكثر دقة وتعقيدًا.
في أكتوبر 2023، سعدت بدعوة كريمة من الشركة العامة للبترول لإلقاء بحث علمي حول التطور الجيولوجي لخليج السويس والبحر الأحمر، وعلاقته بالإمكانات البترولية للمنطقة. وخلال زيارتي لمواقع الحقول التابعة للشركة في رأس غارب، لفت انتباهي عند المدخل نموذج لجهاز حفر قديم، نُصب تخليدًا لفيلم “للرجال فقط”.
وقد مثّل هذا المشهد استدعاءً بصريًا قويًا لبدايات الصناعة، وأيقظ تساؤلاتٍ عن كيفية إدارة عمليات الحفر وتسجيل الآبار في تلك الفترة المبكرة.
يُعد فيلم “للرجال فقط”، إنتاج عام 1964، من بطولة سعاد حسني ونادية لطفي، من أوائل الأفلام المصرية التي صُوّرت داخل مواقع حقيقية لحقول البترول.
وبعيدًا عن جانبه الدرامي، الذي تناول قصر العمل الحقلي في قطاع البترول على الرجال، فإن الفيلم يُعد أول محاولة جادة لتوثيق عمليات الحفر البري وتسجيلات الآبار.
وقد استوقفني في الفيلم مشهدان رئيسيان:
• مشهد الحفر البري: الذي ظهر بتفاصيل تقنية واقعية لافتة.
• مشهد التسجيلات الزلزالية والكهربائية: حيث عُرضت تقنيات التسجيل السيزمي البدائية، باستخدام الديناميت لتوليد الموجات الزلزالية، وتسجيلها على أفلام فوتوغرافية تُحمّض لاحقًا.
ورغم بساطة هذه الوسائل مقارنةً بتكنولوجيا اليوم، فقد أسهمت في اكتشاف عدد من الحقول العملاقة في خليج السويس.
كانت فترة الستينيات زاخرة بالتحولات، لعل أبرزها تأميم الشركات الأجنبية العاملة في مصر، واقتصار أنشطة الحفر على اليابسة في تلك الحقبة.
لكن هذا الوضع لم يدم طويلًا؛ ففي عام 1961، تم حفر أول بئر بحري في خليج السويس (بئر بلاعيم البحري-1)، وتحققت لاحقًا مجموعة من الاكتشافات البترولية الكبيرة.
ولفهم سبب تركيز أنشطة الحفر في المناطق الساحلية آنذاك، تجدر الإشارة إلى أن الاعتقاد السائد في بدايات الصناعة كان أن البترول يوجد غالبًا بالقرب من مناطق النشع البترولي، وعلى شواطئ البحار والمحيطات.
ولهذا، تم تكثيف الحفر الساحلي حتى أواخر الستينيات، لا سيما على الشاطئ الغربي لخليج السويس.
وحتى يومنا هذا، إذا قررت السفر برًا من القاهرة إلى الغردقة، فاحرص على الجلوس بجوار النافذة اليسرى؛ إذ يمكنك أن ترى أجهزة حفر آبار البترول مصطفّة على امتداد الساحل الغربي للخليج، شاهدة على تاريخ طويل من العمل والاستكشاف.
أما اليوم، فقد أصبحت عمليات الاستكشاف أكثر تعقيدًا وتطورًا، مع الاعتماد على أجهزة المسح السيزمي ثلاثي ورباعي الأبعاد، والتسجيلات الكهربائية الدقيقة، في محاولة لاستكشاف الحقول الصغيرة والمتوسطة التي ما زالت متبقية في خليج السويس.
ولا شك أن ازدياد عدد الحقول والاكتشافات يفرض ضرورة تطوير فلسفة الاستكشاف ذاتها، وفهم أعمق لطبيعة الخزانات الحاملة للبترول، لضمان أقصى استفادة من الإمكانات البترولية التي لا يزال خليج السويس يحتفظ بها.
ملاحظة فنية: كان التسجيل الزلزالي يُجرى بوسائل بدائية نسبيًا. كانت الموجات الزلزالية تُولّد باستخدام الديناميت المدفون في حُفر صغيرة، ثم تُسجل الموجات المرتدة من الطبقات الجيولوجية على أفلام فوتوغرافية تُحمّض لاحقًا لتحليلها.
هذه الطريقة كانت بطيئة، بدائية، وتعتمد على التقدير البشري أكثر من الحسابات الدقيقة.
أما اليوم، فقد تطورت التقنية إلى ما يُعرف بـالمسح السيزمي ثلاثي ورباعي الأبعاد (3D/4D seismic)، حيث يتم توليد الموجات الزلزالية بشكل آمن ودقيق عبر مهتزات هيدروليكية أو مصادر صوتية بحرية، ويتم التقاطها بواسطة آلاف من الحساسات الرقمية (Geophones / Hydrophones)، ثم تحليلها باستخدام برمجيات متقدمة توفر صورًا ثلاثية الأبعاد للبنية الجيولوجية تحت السطح.
الصورة المرفقة لعمليات المسح السيزمي الحديث التُقطت في يونيو 2015 أثناء تنفيذ برنامج المسح السيزمي شرق أسيوط. وقد حرصت على توثيق هذه اللحظة نظرًا لأهميتها، كونها تمثل إحدى المحطات التقنية البارزة في جهود الاستكشاف البري في صعيد مصر، وسنعود للحديث عنها لاحقًا بالتفصيل عند الانتقال إلى وادي النيل والصحراء الشرقية والغربية.
الفرق الجوهري أن تقنيات اليوم لا تتيح فقط تحديد موقع الخزان بدقة، بل تسمح أيضًا بتتبّع تغيراته عبر الزمن (في حالة المسح الزلزالي رباعي الأبعاد)، مما يساعد في تحسين قرارات الحفر، وزيادة الإنتاج، وتقليل المخاطر.