«بين جبلين.. وُلدت الحقول من رحم الجفاف وبفعل الإصرار»
في الحلقة التاسعة، انتقلنا من جبل الزيت إلى قلب الصعيد، حيث فجّر حقل البركة مفاجأة من العيار الثقيل، جاءت في مرحلة مبكرة من أعمال الاستكشاف.
فبعد حفر ثلاث آبار جافة، جاء الكشف البترولي سريعًا في البئر الرابع، ليؤكّد أن الأرض قد تُخبّئ كنوزها في أماكن لم نألفها، وأن المفاجآت قد تأتي حين يفقد الآخرون الأمل.
لكنّ رحلة البترول في مصر لا تسير دومًا على هذا النحو المفاجئ، فكثيرًا ما تكون قصة صبرٍ طويل، تُروى عبر محاولات متكررة وظروف عصيّة، وإصرار لا يلين.
إنّ كل قطعة أرض نسير عليها لها قصة في الباطن، حتى الحقول العملاقة مثل رمضان، والمرجان، وأكتوبر، وبلاعيم، ويوليو، وغيرها… كلها بدأت بحلم وواصلت بالإصرار، حتى المسميات ارتبطت بالأحداث العظيمة في مصرنا الحبيبة.
قامت ثورة 25 يناير 2011، وكنت وقتها في هذا الموقع بالصورة المرفقة، بين جبل الزيت وجبل عش الملاحة، أتابع حفر البئر (الأمير-7) في حقل الأمير الواقع بين الجبلين.
بدايات الأحداث لم تكن تنذر بما ستؤول إليه الأوضاع لاحقًا، وكأنّ الأرض، في تلك اللحظة، كانت تهمس بما لا يدركه أحد.
ومن الجنوب إلى خليج السويس، نعود إلى المنطقة التي بدأت منها الحكاية – بين جبل الزيت وجبل عش الملاحة – حيث تُجسّد الجغرافيا دروسًا في الجيولوجيا، وتُقدّم لنا الصحراء قصة أخرى لا تقلّ إثارة، وإن اختلفت ملامحها.
المنطقة الواقعة بين جبل الزيت (إلى اليمين) وجبل عش الملاحة (إلى اليسار) تُظهر بوضوح في الصور الفضائية مشهدًا جيولوجيًا فريدًا، ما يُعرف بـ “المراوح الفيضية” (Alluvial Fans) التي كوّنتها المجاري الجبلية عبر ملايين السنين عند سفوح الجبال. هذه التراكيب الرسوبية المخروطية الشكل، الناتجة عن تراكم الرواسب القادمة من المرتفعات، خلقت سهلًا رمليًا فسيحًا، يفصل بين سلاسل جبلية متوازية.
جيولوجيًا، تمثل هذه المراوح بيئة مثالية لترسيب طبقات من الحجر الرملي عالي المسامية، وهو ما يُفسّر وجود تكوينات رسوبية واعدة، خاصة طبقات متكون الكريم (Kareem Formation) الممتدة من جبل الزيت، والتي أثبتت لاحقًا قدرتها على احتجاز البترول بالمصائد.
إذا سافرت من القاهرة إلى الغردقة، فعندما تتجاوز رأس غارب بنحو 50 كيلومترًا، تأمل المنظر:
جبل عش الملاحة على يمينك، وجبل الزيت على يسارك.
وبينهما، ساحة شاسعة منبسطة، كأنها سجادة رملية حيكت بخيوط الطبيعة، وزينها الإصرار الجيولوجي بالحقول المنتجة.
قيمة الإصرار في البرامج الاستكشافية
في مطلع الستينيات، بدأت الشركة العامة للبترول أعمال الحفر الاستكشافي في هذه المنطقة. ومع أن جميع الآبار خلال الستينيات والسبعينيات كانت جافة، لم يتوقف البحث.
وعلى مدار ستين عامًا، تعاقبت عدة شركات مثل شيفرون وماراثون وديڤون وديمينكس وغيرهم على استكشاف هذا الحوض الترسيبي (Gemsa Basin)، ليصل عدد الآبار المحفورة إلى نحو خمسين بئرًا، جميعها جافة دون نتائج اقتصادية تُذكر.
ثم جاءت نقطة التحول في عام 2004، حين نجحت شركة “فيجاس” في تحقيق أول كشف تجاري في هذا الحوض، ما أعاد الأمل في إمكاناته.
تتابعت بعدها الاكتشافات، لتُثمر عن نحو ثمانية حقول منتجة (مثل الأمير، الأمير جنوب شرق، جياد، العلا، لوركان، مطر، وغيرها)، جميعها من طبقة الحجر الرملي التابعة لتكوين الكريم.
الدرس البترولي الكبير
في عالم الاستكشاف، الآبار الجافة لا تعني الفشل، بل قد تكون مقدمات لاكتشافات عظيمة طالما أن هناك شواهد جيولوجية تُشير إلى وجود نظام بترولي فعّال.
الإصرار، وحده، هو ما يصنع الفرق بين من يغادر، ومن يحوّل الرمال إلى حقول منتجة.
ملحوظة للصورة الفضائية المرفقة:
المناطق الداكنة تشير إلى تضاريس مرتفعة مكونة من صخور نارية ومتحولة (صخور القاعدة).
المناطق الفاتحة تُمثّل السهول الرسوبية المستهدفة بأعمال الحفر.
الحقول البترولية المنتجة: مميزة على الخريطة باللون الأخضر، وتتركز ضمن السهل الرملي بين الجبلين، حيث توجد المصائد الرسوبية في طبقات الحجر الرملي لتكوين الكريم.