في بيئة العمل المعاصرة، لم تعد المناصب القيادية مجرد شارات تُعلّق على الأبواب، بل أصبحت مسؤولية ضخمة تتطلب وعيًا إداريًا، ومهارات إنسانية، وكفاءة فنية. ومع ذلك، لا تزال بعض المؤسسات تُسلّم مفاتيح القيادة لأشخاص لم يخضعوا لأي تأهيل حقيقي، لا في التعامل مع البشر، ولا في فهم العمل، ولا في حل النزاعات.
فهل يعقل أن يُدير إنسانٌ فريقًا كاملًا، دون أن يتعلم فن إدارة الإنسان؟
حين يتحوّل المدير إلى “عالة وظيفية”
تُظهر التجربة اليومية في عدد من المؤسسات، أن بعض المديرين وصلوا إلى مناصبهم نتيجة الأقدمية أو المجاملات، دون أن يمتلكوا أدوات القيادة الفعلية. هؤلاء – من حيث لا يدرون – يصنعون بيئةً سامة تقتل الإبداع وتغذّي الصراعات الداخلية.
فبدلًا من بناء فريق متماسك، نجدهم يتعاملون بمنطق التفرقة، وتغذية الولاءات الشخصية، وتكريس ثقافة الخوف أو المحاباة. والأسوأ من ذلك، أن فشلهم لا يُحاسب عليه أحد، بل يُحمَّل عبء ذلك للفريق، أو يُبرَّر بأن “الناس لا تعمل”.
ما الذي نفتقده تحديدًا؟
1. عدم تأهيل المديرين نفسيًا وبشريًا قبل تولي المنصب.
2. غياب اختبارات القيادة الحقيقية في الترقية، مثل اختبارات الذكاء العاطفي، إدارة الأزمات، وفن اتخاذ القرار.
3. الخلط بين “الأقدمية” و”الجدارة”.
4. عدم وجود تقييم دوري لأداء المديرين من قِبل مرؤوسيهم.
5. التهاون في علاج ما يُعرف بالرسوب الوظيفي، وهو بقاء الموظف في درجته أو مكانته لفترة طويلة دون تطوير، حتى يُكافأ لاحقًا بمنصب لا يستحقه.
ما الحل؟ كيف نعيد الاعتبار للعمل؟
لكي نرتقي بمؤسساتنا، ونضمن بيئة إنتاج حقيقية، علينا:
1. فرض اختبارات ودورات قيادية قبل أي ترقية
مثل:
• الذكاء العاطفي
• إدارة الصراعات
• القيادة الموقفية
• بناء الفرق وقيادتها
2. اعتماد آلية تقييم 360 درجة
أي أن يُقيَّم المدير من فريقه أيضًا، وليس فقط من الإدارة العليا.
3. وضع سياسات لعلاج الرسوب الوظيفي
ليس كل مَن طالت مدته يستحق قيادة… بل يجب أن يُعيد التأهيل أو يُعاد توجيهه.
4. تعزيز الثقافة الإنسانية داخل الإدارة
فالقائد الناجح لا يُقصي المختلف، ولا يُكافئ الولاء الأعمى، بل يُنمّي التنوع ويوجّه الطاقات نحو الهدف المشترك.
5. فصل العلاقات الشخصية عن قرارات العمل
المنشأة ليست عائلة، بل فريق احترافي. وكلما طغت العواطف على الإدارة، دفع الجميع الثمن.
ختامًا:
المدير ليس “صاحب سلطة” بل “صانع بيئة”. فإن أحسن، ارتقى فريقه… وإن أساء، تعفّنت المؤسسة من الداخل، مهما كانت شعارات الجودة والخطط المعلنة.
ولذلك، لا بد أن نُعيد النظر جذريًا في فلسفة الترقية، ونضع الإنسان المناسب في المكان المناسب، بعد اختباره وتأهيله، وليس لمجرد أنه “الأقدم” أو “الأهدأ”.
⸻
دكتور حمدي الهراس
كاتب في تطوير الأداء الإداري والصناعي والإنساني