حرب أكتوبر الخالدة، لم تكن معركة عسكرية على جبهة القتال فقط، والتي ضرب فيها الجندي المصري أروع الأمثلة فى البسالة والكفاءة القتالية العالية، وتحدى المستحيل وتحطيم أسطورة جيش العدو الذي لا يقهر، بل تعدت جبهات القتال إلى معظم الدول العربية، بعيدا عن المساعدات والمساهمات العسكرية والعينية منها، كان هناك سلاحا فتاكا في حرب أكتوبر المجيدة، استخدمه العالم العربي في أروع الأمثلة للوحدة العربية، والذي يؤكد أن العالم العربي فى حالة الوحدة والإتفاق على قرار يكون صاحب اليد العليا على مستوى العالم.
والمتابع للوضع العالمي الآن يؤكد أهمية إستخدام سلاح الطاقة وتأثيره القوى على مستوى العالم، فروسيا الآن فطنت لإستخدام مصر سلاح البترول فى حرب أكتوبر 1973، وأعدت جيدا لهذا اليوم، حيث تستخدم موسكو سلاح الغاز الطبيعي والبترول في مواجهة العقوبات الأمريكية والغربية، التي فرضتها بعد إعلانها الحرب على أوكرانيا، وكان سلاح الغاز الطبيعي، أداة الاجبار الذي أركع كل الدول الغربية بلا استثناء وصعد بأسعار البترول والغاز الطبيعي إلى مستويات قياسية غير مسبوقة، يعاني منها العالم بلا استثناء.
فقد وعى الدب الروسي جيدا لأهمية سلاح الطاقة فى فرض سيطرته على العالم، وترجيح كفة الميزان لصالحه، وقد وعى بوتين الدرس العربي جيدا من حرب أكتوبر، عندما أعاد القرار العربي الولايات الأمريكية إلى عصور الظلام، واستخدام الحمير كوسيلة مواصلات، بعد أن أصابت أزمة الوقود الحياة العامة في ربوع الغرب بالشلل التام.
فحرب أكتوبر كما تسجلها وتقوم بتدريسها كل كليات العالم العسكرية، كواحدة من أعظم الحروب فى تاريخ مصر والمنطقة العربية، والتى انتصرت فيها مصر على إسرائيل، ومن ورائها الولايات المتحدة الأمريكية أكبر قوة عسكرية فى العالم، والمتحالفين معهم من دول الأروبية، بتكتيكات عسكرية غير مسبوقة وبسالة للجنود المصريين الذين ضربوا أروع الأمثلة فى الفداء والتضحية.
فانتصار مصر فى حرب أكتوبر المجيدة، واستعادة الأراضى المحتلة سواء فى سيناء أو غيرها من الأراضى العربية، لم يكن على المستوى العسكري والسياسي فقط، فالملحمة الكبرى كانت في تضافر جهود الوحدة العربية، واستخدام سلاح البترول فى مواجهة دول العالم التي تساند الكيان الأسرائيلي، بجانب استخدام الأسلحة السياسة والاقتصادية وحتى الاجتماعية والثقافية والفنية معاً، فتحالف الدول العربية، وعلى رأسها السعودية والإمارات والكويت والعراق وليبيا وسوريا والجزائر، وكذلك جيبوتى والصومال، حتى إيران والتي استخدمت فيه سلاح البترول خلال حرب أكتوبر، الذي أثبت أنه سلاحا استرايتيجيا مؤثرا وتم استخدامه بكفاءة من مختلف الدول العربية للمرة الأولى، تم من خلاله الضغط على الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية الداعمة للكيان الإسرائيلي، والتي أوقفت على الفور وقف إمداد اسرائيل بالأسلحة، وإيقاف الجسور الجوية إليها، كرها لا طواعية، وسارع فى تحقيق النصر وتحرير سيناء والأراضى المحتلة.
فالملحمة العربية باستخدام النفط كسلاح استراتيجى فى الحرب للمرة الأولى، دليل قوي على أن العالم العربي فى حالة الوحدة يكون قراره مؤثر عالميا، وينصاع له العالم أجمع، وكانت زيارة الملك فيصل إلى مصر، والتي تحدث الرئيس السادات إليه بامكانية إستخدام البترول فى معركة تحرير الأرض ضد إسرائيل والدول التى تدعمها وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية، فكان رد الملك فيصل واضحا وحازما وقائلا: «إذا دخلتم المعركة فنحن معكم».
والرئيس السادات هو أول من تنبه إلى أهمية هذا السلاح فى حسم الحرب لصالح مصر، ففي شهر سبتمبر قبل الحرب، اجتمع الرئيس السادات مع الملوك والرؤساء العرب فى السعودية، وتناقشوا فى هذا الأمر، وكان موقف الشيخ زايد آل نهيان، رئيس الإمارات القوي قائلا: «أنا بدوى قادم من خيمة فى قلب الصحراء ومستعد للعودة إليها فورًا، وكل ما تملكه أبوظبى من البترول هو لمصر وللمعركة»، بل وأعلن استعداده لاتخاذ اجراءات أكبر مؤكدا:«الحظر لأمريكا إجراء صغير ونحن قادرون على إجراءات لضرب المصالح الأمريكية».
وبعد قيام مصر بالعمليات العسكرية وعبور قناة السويس واستعادة الضفة الغربية، بنحو أسبوع، عقد وزراء بترول 6 دول خليجية اجتماعا فى الكويت، بحضور المهندس أحمد عز الدين هلال وزير البترول المصري، وقرر العرب خفض الإنتاج بنسبة ٥٪، وزيادة السعر بنسبة 70%، ووقف تصدير البترول إلى أمريكا وهولندا وكندا وجنوب أفريقيا والبرتغال بالكامل، وألغت البحرين التسهيلات الممنوحة للأسطول الأمريكى، وأصيب العالم كله بالذهول من قوة العرب من خلال إستخدام سلاح البترول الذى أحدث شللا تاما فى كافة مناحي الحياة، وأدى إلى تغيير مواقف غالبية الدول الداعمة لإسرائيل، وخاصة هولندا وألمانيا واليابان، وأيدت قرار مجلس الأمن الشهير رقم 242 الذى يلزم إسرائيل بالانسحاب من جميع الأراضى المحتلة.
وفي محاولة يائسة قامت الولايات المتحدة بتحدى القرار العربي، وأعلنت عن دعم للكيان الإسرائيلي بـ 2 مليار دولار، فى صورة شحنات أسلحة جديدة، وجاء الرد العربى حازمًا وقويا، وقررت دول الخليج حظر تصدير البترول إلى أمريكا، وأعلن الملك فيصل أن الحظر لن يرفع قبل انسحاب إسرائيل من كل الأراضى العربية التى احتلت فى عام 1967، لتحدث أزمة ضخمة فى أمريكا والغرب بعد قطع البترول عنهم، واضطر وزير الخارجية الأمريكية هنرى كيسنجر إلى زيارة المملكة العربية السعودية من أجل إعادة تصدير البترول، إلا أن الملك فيصل أعلن له مجددا رفض استئناف التصدير، إلا بعد تقديم أمريكا ضمانات بانسحاب إسرائيل من الأراضى المحتلة.
ويعد القرار العربي بحظر تصدير البترول ضربة قاصمة للدول التي كانت تدعم الكيان الأسرائيلي، فقد أدى إلى تدهور الاقتصاد العالمي، وإنهيار البورصات العالمية، ونشوب أزمات إقتصادية طاحنة فى أمريكا ودول أوروبا، الأمر الذى أجبر الدول الداعمة لإسرائيل على اتخاذ موقف الحياد، لذلك كان قرار استخدام سلاح البترول فى الحرب قرارا ذكيا جدا، واستثمر كل الإمكانيات العربية فى الحرب، من أجل تحرير الأرض.
أما على الجبهة الداخلية فقد كان تكليف الرئيس محمد أنور السادات لوزير البترول خلال هذه الفترة المهندس أحمد عز الدين هلال، بإعداد خطة محكمة لتوفير احتياجات مصر من المنتجات البترولية سواء للمعركة والمعدات الحربية، أو فى الجبهة الداخلية بتوفير الوقود على مستوى محافظات الجمهورية، وكان المهندس أحمد عز الدين هلال وزير البترول خلال حرب أكتوبر على قدر المسئولية التي وكل بها من قبل وطنه، وإسمه سيبقى خالدا فى تاريخ مصر وصناعة البترول المصرية، فقد كان أول وزير للبترول في مصر، وكان دوره وطنيا مشهود له، وكان حلقة الوصل بين مصر والعالم العربي، الذين ضربوا أروع الأمثلة فى التحالف العربي الذي تفقده إلى حد كبير الأمة العربية الآن، والذى جسد كيف يستطيع العرب مواجهة التحديات العالمية عندما يتحدوا.
فقد كان الإستعداد للمعركة قويا لم يترك شيئا للصدفة، فمصر إستعدت للحرب وأكثر من80% من بترولها في حقول سيناء يحتلها الكيان الإسرائيلي، وأجزاء كبيرة من معامل التكرير بالسويس مدمرة أثناء حرب الإستنزاف فى وقت قد تتعثر إمدادات الوقود من الخارج وهو شريان رئيسى للجيش فى حالة الحرب.
المهمة لم تكن يسيره وسهلة ولكن كان المهندس أحمد عز الدين هلال، على قدر المسئولية التي كلفه بها الرئيس السادات، حيث كان يعمل رئيسا للمؤسسة المصرية العامة للبترول، وأختاره كأول وزير للبترول في مارس عام 1973، لتنفيذ مهام توفير الوقود للمعركة وللإستهلاك المحلي، وقال له السادات بعد حلف اليمين «سنحارب.. وتوفير أرصدة المنتجات البترولية وتوفير إحتياجات الجيش مهمتك للوطن».
ومع وقف إطلاق النار فى 23 أكتوبر، إستمرت حرب البترول ولم تتوقف، وظهرت نتائج حرب أكتوبر سريعا، فغالبية الدول المؤيدة أجبرت على تغيير مواقفها الداعمة لإسرائيل، ودافع السفير الهولندى بإيران أن بلاده لم تمد إسرائيل بالسلاح ولم تنقل جنودا إلى إسرائيل، وأوقفت ألمانيا إرسال الأسلحة لإسرأئيل وغيرت اليابان سياستها المؤيدة لإسرائيل، وتغيرت سياسات كل دول العالم وأيدت التمسك بقرار مجلس الأمن الشهير رقم 242 بإنسحاب إسرائيل من جميع الأراضى المحتلة، والذى ذهب مع الريح فيما بعد..
وللحديث بقية ما دام في العمر بقية..